السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فضيلة الدكتور
محمد سليمان فرج
في الأرض نور وفي السماء نور وفي القلب ساطعة من نور علوي محلى بالسرور، وفي الوجود إشراق من نفحات الإيمان وضياء ذكرى المولد النبوي الشريف، فالأنوار المتلألئة في كل مكان توحي للمؤمنين بأنه نور على نور.
إننا في ذكرى مولده الشريف نشعر بالعجز الشديد عن الوفاء بحقه، وعن حصر كمالاته التي منحه الله تعالى إياها لأننا لا نستطيع أن نحيط بمقامه T ، فما عرف حقيقته T ولا قدره إلا ربه عز وجل الذي اصطفاه على سائر الخلق وجعله حياة القلوب ونور الوجود، فإن كانت الشمس تبدد ظلام الكون الظاهر المحسوس، فإن المصطفى T هو الشمس الحقيقية التي تكشف ظلام النفس الحالك، فبشرى لنا معاشر المسلمين في كل مكان بمولده صلوات الله وسلامه عليه الذي يذكرنا بما أكرمنا الله به من الخير والسعادة على يديه، وطوبى لمن أحيى تلك الذكرى المباركة حبا في رسول الله T وتجديدا لذكرى مولده، وشكرا لله تعالى على نعمة وجوده، وذلك لا يكون إلا بإحياء سنته وبيان شمائله وما نالته الأمة المحمدية من المنح الإلهية والخصائص العظيمة بظهوره T .
وقد أنكر بعض العلماء إحياء ليالي المولد النبوي العظيم، لأنه لم يظهر ذلك في عهد الصحابة، والحقيقة أننا في هذا العصر المادي المسرف في ماديته، أصبحنا في حاجة ماسة ليقظة القلوب بإحياء تلك المناسبة العطرة المباركة، وأما الصحابة رضوان الله عليهم فإن قلوبهم كلها كانت تتذكره T في كل حركة وسكنة.
وإن الحديث في تلك الذكرى العظيمة ليمس شغاف القلوب، ويحرك لطائف الأفئدة، ويبعث في القلوب نشوة روحية وشوقا إليه T.
وقد أجمعت الأمة الإسلامية منذ القرن الثالث الهجري على إحياء تلك الذكرى المباركة.
هذا ولا تجتمع هذه الأمة المحفوظة بدعوة نبيها صلوات الله وسلامه عليه على الضلالة، فقد ثبت عن سيدنا رسول الله T أنه قال: لن تجتمع أمتي على ضلالة فعليكم بالجماعة ). رواه الطبراني
ومن المعروف أن إنكار بعض أفراد الأمة لا يقدح في إجماع الأغلبية ولو كانت إحياء تلك الليلة حراما لما سكت عنه الرسول الكريم T وهو الحريص على نجاة أمته لأن الله تعالى أطلعه على ما سيقع من أمته بعده، ولذلك نراه يحذر أمته كثيرا من أمور لم تظهر في عهده T وأن الأصل في الأشياء هو الحل كما قال علماء الأصول.
فإحياء المولد الشريف ما هو في الحقيقة إلا تعبير عن خالص الحب وصادق الشوق لسيد المرسلين T ومدارسة سيرته العطرة التي تجذب القلوب إلى الطاعة وتدفعها إلى العبادة، وأما ما يظنه بعض العلماء من أن هذا ربما يعتقده العوام أنه من تعاليم الإسلام فيجب تركه من باب سد الذرائع فهذا الرأي مردود على صاحبه لأن الناس جميعا يعرفون هذا المعنى لكثرة شيوعه، وتنبيه العلماء بأنه لم يكن في عهد الصحابة بل حدث بعد ذلك ليقظة القلوب وتجديد الشوق لسيد ولد آدم T .
وأن الاحتفال بمولده T أمر مقبول عقلا لأن الله تعالى أمر جميع الكائنات فاحتفلت بليلة مولده T ، ومن ذلك ما ظهر لأمه وما رأته قابلته التي تلقته على يديها وما حصل لجميع النساء الحاملات في عام حمله T وكسبت الأرض خصبا وجودة حتى صار عام ولادته مشهورا بعام الفتح والجود والخير العميم، وطاف به سيدنا جبريل ليلة مولده حتى عرج به إلى السماء ليبشر به T ، وحرست السماء من الشياطين وخمدت نار فارس وتصدع إيوان كسرى ونكست الأصنام وفاضت بحيرة طبرية وغاضت بحيرة ساوة ونطقت الحيوانات ورد الله أبرهة بفيله برجم أبابيل إلى غير ذلك من الإرهاصات التي حدثت احتفالا بمولده الشريف صلوات الله وسلامه عليه، لأنه النعمة الكبرى للوجود والرحمة العامة لكل مخلوق.
وقد قال الله تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم) .
النعمة العظمى
وما النعمة العظمى إلا سيدنا محمد رسول الله T ،وما ذكرها إلا شكرها وما شكرها إلا اتباعها وإظهار ما يشعر بتعظيمها وتبجيلها وفاء لصاحب النعمة الكبرى الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور.
رأي الشيخ الخزرجي
وقال العلامة الشيخ محمد بن أحمد بن الشيخ حسن الخزرجي في بيان مشروعية المولد النبوي الشريف:فإن شمائل المصطفى T وتاريخه اللامع بالوفاء، لمن الواجب على المسلم أن يعتني به، ويحرره ويقرأه شكرا، ويغتني به ليستفيد من سيرته وصفاته، ويتمسك بجوامع كلمه وعظاته.
ومن هذا المنطلق المضيء، أجمع العلماء على قراءة مولد النبي T ، في شهر ربيع الأول إحياء لهذه الذكرى، وقراءة لسيرته شكرا، وإطعام الطعام للفقراء والمساكين، وإكرام أهل العلم ووجوه المسلمين، وتكرار الصلاة والسلام عليه بشوق وأدب، وتخيل مقامه الأعلى في أوقات الاحتفال والقرب.
وقد ذكر في جوابه على أهل صحار:ما استدل به شيخ الإسلام، الحافظ بن حجر العسقلاني، أن المولد بدعة حسنة بخبر الصحيحين أنه T ، لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا:هذا يوم أغرق الله فيه فرعون، ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فقال T ، ( أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه).
فقال شيخ الإسلام:يستفاد منه فضل الشكر لله تعالى، بأنواع العبادات، على ما من به في يوم معين، من إسداء نعمة، أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في كل سنة في مثل ذلك اليوم.
وأي نعمة أفضل وأعظم من نعمة بروز النبي T في ذلك اليوم، نبي الرحمة T .
ووافقه بهذا الاستدلال كثير من العلماء منهم الحافظ بن الحنبلي، واستدل العالم السيوطي، على أن المولد مستحب،بما أخرجه البيهقي، عن أنس Z أن النبي T ، عق عن نفسه، بعد النبوة والحال أن جده عبد المطلب عق عنه يوم سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد، فيحمل على أن هذا الذي فعله، إظهارا للشكر على إظهاره رحمة للعالمين، كما كان يصلي على نفسه T .
فلذلك يستحب لنا إظهار الشكر له تعالى بمولده T بالإجماع، وإطعام الطعام، وإظهار المسرات. روى هذا الحديث أحمد والبزار.
وجاء عن الإمام الزاهد القدوة، أبي اسحق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن جماعة، رحمة الله عليهم، أنه لما كان بطيبة، كان يعمل المولد، ويصنع الطعام للناس، ويقول:لو أستطيع لعملت بطول الشهر كل يوم مولدا.
قال ابن الجوزي، رحمه الله تعالى، إذا كان أبو لهب يخفف عنه العذاب يوم الاثنين، بفرحه بمولد النبي T وعتقه جاريته التي بشرته بالنبي T يوم ولد، فما حال المسلم الذي يسر بمولده، ويبذل ما يقدر عليه.
وما أحسن ما قاله الحافظ الشمس محمد بن ناصر الدين الدمشقي في ذالك:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه
وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في الاثنين دائما
يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي عاش عمره
بأحمد مسرورا ومات موحدا
وهكذا ظل يستفيض إلى أن قال.ذكر الشيخ أحمد ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه ( اقتضاء الصراط المستقيم ) بعد أن ذكر أن محبة النبي T في اتباعه والاقتداء بهديه وأطال في هذا الكلام إلى أن قال:فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله T كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد:ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء أنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك فقال:دعه فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب أو كما قال، مع أن مذهبه أن زخرفة المصحف مكروهة.
الاحتفال بالمولد فيه ثواب عظيم
يستفاد من هذا الكلام أن عمل المولد والاحتفال به لتعظيم النبي T وحسن القصد في عمله فيه ثواب وأجر عظيم.
وأن كل ما يمكن عمله مما فيه تعظيم للنبي T فعلينا أن نعمله.
على أن قراءة المولد درس من دروس العلم لما يحويه من علم التاريخ والسيرة والشمائل، وعلم التاريخ من فروض الكفاية التي يجب على المجتمع ككل معرفته.
وفي تاريخ حياة النبي T الذي يقرأ في أيام الاحتفال بمولده أمران واجبان على كل فرد بعينه:
الأول:معرفة نسبه T إلى عدنان.
الثاني:معرفة كونه ولد في مكة ونشأ فيها وأوحي إليه وهاجر إلى المدينة المنورة وتوفي بها، بالإضافة إلى ما يشعر به القارئ والسامع عند ذكر شمائله من القشعريرة والشوق إليه T وتجديد المحبة والإخلاص.
وقد كتب كثير من المحققين بأن أدلة المشروعية متوافرة.
فقد ذكر الله تعالى مولد عيسى عليه السلام بقوله تعالى: (والسلام علي يوم ولدت ويوم أبعث حيا ).
فهذه الآية حفاوة بمولد عيسى بن مريم عليه السلام، وكذلك ذكر سيدنا يحيى عليه السلام، فكيف لا نحتفل بمولد سيد العالمين T .
ما حجة المعترضين؟
وأما احتجاج المعترضين على الاحتفال بالمولد بأنه لم يكن على عهد النبي T ، وما لم يكن على عهده Tفهو بدعة، والنبي يقول: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) فالاحتفال بدعة، فإن كانوا يريدون البدعة السيئة فالجواب على ذلك:أن الاحتفال بالمولد النبوي إنما يكون بذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله Tوذكر سيرته وفضله وليس هذا من البدع السيئة، وإن قالوا كون الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن على عهد رسول الله Tكافيا لاعتباره بدعة وكل بدعة ضلالة، وإنهم ينكرون تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة لا بد منه لأن حديث ( كل بدعة ضلالة ) مخصص بحديث ( من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه وزر من عمل بها ولا ينقص عن أوزارهم شيء ) رواه مسلم في صحيحه.
وقال الإمام الشافعي : المحدثات من الأمور ضربان،أحدهما ما أحدث مما يخالف شرعا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة ضلالة، وثانيهما ما أحدث من الخير مما لا خلاف فيه فهي محدثة غير مذمومة ).
وقال سيدنا عمر بن الخطاب Z في صلاة التراويح جماعة( نعمت البدعة هي)، لأنه جمع الصحابة على إمام واحد في المسجد وجعلها عشرين ركعة. رواه البخاري
البدعة الحسنة
فالبدعة الموافقة للدين بدعة حسنة وذلك مثل جمع القرآن الكريم، فقد أنكره الصديق وأنكره زيد بن ثابت حتى شرح الله له صدريهما فوافقا عمر على رأيه فكان عملهم في جمع القرآن الكريم بدعة حسنة.
ولقد ذكر ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، كثيرا من عمل القرون الأولى ومن بعدهم مما لم يكن معروفا على عهد النبي T كقول الإمام أحمد باستحباب التعريف في غير عرفة وفي غير مسجد معين، وما ذكره عن أهل الشام وأقره من استحبابه الصلاة حيث صلى عمر Zفي المسجد الأقصى، ومنها قوله بتفضيل الناحية التي بناها عمرZ في المسجد الأقصى على سائر النواحي من المسجد نفسه، وكذلك توسل السيدة عائشة بكشف قبر النبي T واستقائها بذلك ونزول الغيث عندئذ.
فالاحتفال بالمولد النبوي إنما هو احتفال في الحقيقة بالإسلام الذي جاء به رسول الله T;l ، فنحن نحتفل بالمنهج الذي جاء به وبالرسول الذي هدانا إليه.
ومن أدلة مشروعية المولد، أن امرأة ضربت الدف على رأسه Tبعد عودته سالما.
كما ذكر ابن عباد في رسالته إن للمولد النبوي مستندا وهو أن امرأة جاءت إلى النبي T عند قفوله من بعض غزواته، فقالت:إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب على رأسك بالدف فقال لها T:أوفي بنذرك. رواه ابن حبان
والنبي T أمرها بالوفاء بنذرها لما كان سبب ذلك فرحها بسلامته T ولم يجعل ذلك بمنزلة من نذر معصية في عدم لزوم الوفاء به.
وقد وصف الله الرسول Tبالرحمة فقال: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ).
وأكد هذا المعنى بالنفي والإثبات وهو من أدوات الحصر، وبإطلاق المصدر إيذانا بأنه T عين الرحمة ومبالغة في وصفه بالرحمة الكاملة.
وقد أمرنا أن نفرح بفضل الله ورحمته فقالك قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ).
الفرحة بالرسول
فيستنتج من الآيتين أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نفرح بالرسول T الذي كان مولده من أعظم النعم علينا، وقد ذكر بعض المفسرين كالألوسي، أنه يجوز أن يراد بالرحمة النبي T ،وأن الله أمرنا أن نفرح به T .
ومن أدلة مراعاة مناسبة المولد أيضا:أن وفاة الرسول Tكانت يوم الإثنين، ومراعاة لهذه المناسبة، تمنى أبو بكر أن تكون وفاته أيضا يوم الإثنين، وهذا من مراعاة المناسبات والتبرك بها، والاحتفال بالمولد من هذا المعنى.
فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على أبي بكرZ فقال:في كم كفنتم النبي T ،قالت في ثلاثة أثواب بيض سحولية،ليس فيها قميص ولا عمامة، وقال لها:في أي يوم توفي النبي T ؟قالت يوم الإثنين، قال:أرجو فيما بيني وبين الليل )
قال القسطلاني:وترجى الصديق رضي الله عنه أن يموت يوم الإثنين لقصد التبرك وحصول الخير لكونه عليه السلام توفي فيه، فله مزية على غيره من الأيام بهذا الاعتبار.
فضيلة الدكتور
محمد سليمان فرج
في الأرض نور وفي السماء نور وفي القلب ساطعة من نور علوي محلى بالسرور، وفي الوجود إشراق من نفحات الإيمان وضياء ذكرى المولد النبوي الشريف، فالأنوار المتلألئة في كل مكان توحي للمؤمنين بأنه نور على نور.
إننا في ذكرى مولده الشريف نشعر بالعجز الشديد عن الوفاء بحقه، وعن حصر كمالاته التي منحه الله تعالى إياها لأننا لا نستطيع أن نحيط بمقامه T ، فما عرف حقيقته T ولا قدره إلا ربه عز وجل الذي اصطفاه على سائر الخلق وجعله حياة القلوب ونور الوجود، فإن كانت الشمس تبدد ظلام الكون الظاهر المحسوس، فإن المصطفى T هو الشمس الحقيقية التي تكشف ظلام النفس الحالك، فبشرى لنا معاشر المسلمين في كل مكان بمولده صلوات الله وسلامه عليه الذي يذكرنا بما أكرمنا الله به من الخير والسعادة على يديه، وطوبى لمن أحيى تلك الذكرى المباركة حبا في رسول الله T وتجديدا لذكرى مولده، وشكرا لله تعالى على نعمة وجوده، وذلك لا يكون إلا بإحياء سنته وبيان شمائله وما نالته الأمة المحمدية من المنح الإلهية والخصائص العظيمة بظهوره T .
وقد أنكر بعض العلماء إحياء ليالي المولد النبوي العظيم، لأنه لم يظهر ذلك في عهد الصحابة، والحقيقة أننا في هذا العصر المادي المسرف في ماديته، أصبحنا في حاجة ماسة ليقظة القلوب بإحياء تلك المناسبة العطرة المباركة، وأما الصحابة رضوان الله عليهم فإن قلوبهم كلها كانت تتذكره T في كل حركة وسكنة.
وإن الحديث في تلك الذكرى العظيمة ليمس شغاف القلوب، ويحرك لطائف الأفئدة، ويبعث في القلوب نشوة روحية وشوقا إليه T.
وقد أجمعت الأمة الإسلامية منذ القرن الثالث الهجري على إحياء تلك الذكرى المباركة.
هذا ولا تجتمع هذه الأمة المحفوظة بدعوة نبيها صلوات الله وسلامه عليه على الضلالة، فقد ثبت عن سيدنا رسول الله T أنه قال: لن تجتمع أمتي على ضلالة فعليكم بالجماعة ). رواه الطبراني
ومن المعروف أن إنكار بعض أفراد الأمة لا يقدح في إجماع الأغلبية ولو كانت إحياء تلك الليلة حراما لما سكت عنه الرسول الكريم T وهو الحريص على نجاة أمته لأن الله تعالى أطلعه على ما سيقع من أمته بعده، ولذلك نراه يحذر أمته كثيرا من أمور لم تظهر في عهده T وأن الأصل في الأشياء هو الحل كما قال علماء الأصول.
فإحياء المولد الشريف ما هو في الحقيقة إلا تعبير عن خالص الحب وصادق الشوق لسيد المرسلين T ومدارسة سيرته العطرة التي تجذب القلوب إلى الطاعة وتدفعها إلى العبادة، وأما ما يظنه بعض العلماء من أن هذا ربما يعتقده العوام أنه من تعاليم الإسلام فيجب تركه من باب سد الذرائع فهذا الرأي مردود على صاحبه لأن الناس جميعا يعرفون هذا المعنى لكثرة شيوعه، وتنبيه العلماء بأنه لم يكن في عهد الصحابة بل حدث بعد ذلك ليقظة القلوب وتجديد الشوق لسيد ولد آدم T .
وأن الاحتفال بمولده T أمر مقبول عقلا لأن الله تعالى أمر جميع الكائنات فاحتفلت بليلة مولده T ، ومن ذلك ما ظهر لأمه وما رأته قابلته التي تلقته على يديها وما حصل لجميع النساء الحاملات في عام حمله T وكسبت الأرض خصبا وجودة حتى صار عام ولادته مشهورا بعام الفتح والجود والخير العميم، وطاف به سيدنا جبريل ليلة مولده حتى عرج به إلى السماء ليبشر به T ، وحرست السماء من الشياطين وخمدت نار فارس وتصدع إيوان كسرى ونكست الأصنام وفاضت بحيرة طبرية وغاضت بحيرة ساوة ونطقت الحيوانات ورد الله أبرهة بفيله برجم أبابيل إلى غير ذلك من الإرهاصات التي حدثت احتفالا بمولده الشريف صلوات الله وسلامه عليه، لأنه النعمة الكبرى للوجود والرحمة العامة لكل مخلوق.
وقد قال الله تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم) .
النعمة العظمى
وما النعمة العظمى إلا سيدنا محمد رسول الله T ،وما ذكرها إلا شكرها وما شكرها إلا اتباعها وإظهار ما يشعر بتعظيمها وتبجيلها وفاء لصاحب النعمة الكبرى الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور.
رأي الشيخ الخزرجي
وقال العلامة الشيخ محمد بن أحمد بن الشيخ حسن الخزرجي في بيان مشروعية المولد النبوي الشريف:فإن شمائل المصطفى T وتاريخه اللامع بالوفاء، لمن الواجب على المسلم أن يعتني به، ويحرره ويقرأه شكرا، ويغتني به ليستفيد من سيرته وصفاته، ويتمسك بجوامع كلمه وعظاته.
ومن هذا المنطلق المضيء، أجمع العلماء على قراءة مولد النبي T ، في شهر ربيع الأول إحياء لهذه الذكرى، وقراءة لسيرته شكرا، وإطعام الطعام للفقراء والمساكين، وإكرام أهل العلم ووجوه المسلمين، وتكرار الصلاة والسلام عليه بشوق وأدب، وتخيل مقامه الأعلى في أوقات الاحتفال والقرب.
وقد ذكر في جوابه على أهل صحار:ما استدل به شيخ الإسلام، الحافظ بن حجر العسقلاني، أن المولد بدعة حسنة بخبر الصحيحين أنه T ، لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا:هذا يوم أغرق الله فيه فرعون، ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فقال T ، ( أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه).
فقال شيخ الإسلام:يستفاد منه فضل الشكر لله تعالى، بأنواع العبادات، على ما من به في يوم معين، من إسداء نعمة، أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في كل سنة في مثل ذلك اليوم.
وأي نعمة أفضل وأعظم من نعمة بروز النبي T في ذلك اليوم، نبي الرحمة T .
ووافقه بهذا الاستدلال كثير من العلماء منهم الحافظ بن الحنبلي، واستدل العالم السيوطي، على أن المولد مستحب،بما أخرجه البيهقي، عن أنس Z أن النبي T ، عق عن نفسه، بعد النبوة والحال أن جده عبد المطلب عق عنه يوم سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد، فيحمل على أن هذا الذي فعله، إظهارا للشكر على إظهاره رحمة للعالمين، كما كان يصلي على نفسه T .
فلذلك يستحب لنا إظهار الشكر له تعالى بمولده T بالإجماع، وإطعام الطعام، وإظهار المسرات. روى هذا الحديث أحمد والبزار.
وجاء عن الإمام الزاهد القدوة، أبي اسحق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن جماعة، رحمة الله عليهم، أنه لما كان بطيبة، كان يعمل المولد، ويصنع الطعام للناس، ويقول:لو أستطيع لعملت بطول الشهر كل يوم مولدا.
قال ابن الجوزي، رحمه الله تعالى، إذا كان أبو لهب يخفف عنه العذاب يوم الاثنين، بفرحه بمولد النبي T وعتقه جاريته التي بشرته بالنبي T يوم ولد، فما حال المسلم الذي يسر بمولده، ويبذل ما يقدر عليه.
وما أحسن ما قاله الحافظ الشمس محمد بن ناصر الدين الدمشقي في ذالك:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه
وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في الاثنين دائما
يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي عاش عمره
بأحمد مسرورا ومات موحدا
وهكذا ظل يستفيض إلى أن قال.ذكر الشيخ أحمد ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه ( اقتضاء الصراط المستقيم ) بعد أن ذكر أن محبة النبي T في اتباعه والاقتداء بهديه وأطال في هذا الكلام إلى أن قال:فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله T كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد:ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء أنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك فقال:دعه فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب أو كما قال، مع أن مذهبه أن زخرفة المصحف مكروهة.
الاحتفال بالمولد فيه ثواب عظيم
يستفاد من هذا الكلام أن عمل المولد والاحتفال به لتعظيم النبي T وحسن القصد في عمله فيه ثواب وأجر عظيم.
وأن كل ما يمكن عمله مما فيه تعظيم للنبي T فعلينا أن نعمله.
على أن قراءة المولد درس من دروس العلم لما يحويه من علم التاريخ والسيرة والشمائل، وعلم التاريخ من فروض الكفاية التي يجب على المجتمع ككل معرفته.
وفي تاريخ حياة النبي T الذي يقرأ في أيام الاحتفال بمولده أمران واجبان على كل فرد بعينه:
الأول:معرفة نسبه T إلى عدنان.
الثاني:معرفة كونه ولد في مكة ونشأ فيها وأوحي إليه وهاجر إلى المدينة المنورة وتوفي بها، بالإضافة إلى ما يشعر به القارئ والسامع عند ذكر شمائله من القشعريرة والشوق إليه T وتجديد المحبة والإخلاص.
وقد كتب كثير من المحققين بأن أدلة المشروعية متوافرة.
فقد ذكر الله تعالى مولد عيسى عليه السلام بقوله تعالى: (والسلام علي يوم ولدت ويوم أبعث حيا ).
فهذه الآية حفاوة بمولد عيسى بن مريم عليه السلام، وكذلك ذكر سيدنا يحيى عليه السلام، فكيف لا نحتفل بمولد سيد العالمين T .
ما حجة المعترضين؟
وأما احتجاج المعترضين على الاحتفال بالمولد بأنه لم يكن على عهد النبي T ، وما لم يكن على عهده Tفهو بدعة، والنبي يقول: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) فالاحتفال بدعة، فإن كانوا يريدون البدعة السيئة فالجواب على ذلك:أن الاحتفال بالمولد النبوي إنما يكون بذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله Tوذكر سيرته وفضله وليس هذا من البدع السيئة، وإن قالوا كون الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن على عهد رسول الله Tكافيا لاعتباره بدعة وكل بدعة ضلالة، وإنهم ينكرون تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة لا بد منه لأن حديث ( كل بدعة ضلالة ) مخصص بحديث ( من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه وزر من عمل بها ولا ينقص عن أوزارهم شيء ) رواه مسلم في صحيحه.
وقال الإمام الشافعي : المحدثات من الأمور ضربان،أحدهما ما أحدث مما يخالف شرعا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة ضلالة، وثانيهما ما أحدث من الخير مما لا خلاف فيه فهي محدثة غير مذمومة ).
وقال سيدنا عمر بن الخطاب Z في صلاة التراويح جماعة( نعمت البدعة هي)، لأنه جمع الصحابة على إمام واحد في المسجد وجعلها عشرين ركعة. رواه البخاري
البدعة الحسنة
فالبدعة الموافقة للدين بدعة حسنة وذلك مثل جمع القرآن الكريم، فقد أنكره الصديق وأنكره زيد بن ثابت حتى شرح الله له صدريهما فوافقا عمر على رأيه فكان عملهم في جمع القرآن الكريم بدعة حسنة.
ولقد ذكر ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، كثيرا من عمل القرون الأولى ومن بعدهم مما لم يكن معروفا على عهد النبي T كقول الإمام أحمد باستحباب التعريف في غير عرفة وفي غير مسجد معين، وما ذكره عن أهل الشام وأقره من استحبابه الصلاة حيث صلى عمر Zفي المسجد الأقصى، ومنها قوله بتفضيل الناحية التي بناها عمرZ في المسجد الأقصى على سائر النواحي من المسجد نفسه، وكذلك توسل السيدة عائشة بكشف قبر النبي T واستقائها بذلك ونزول الغيث عندئذ.
فالاحتفال بالمولد النبوي إنما هو احتفال في الحقيقة بالإسلام الذي جاء به رسول الله T;l ، فنحن نحتفل بالمنهج الذي جاء به وبالرسول الذي هدانا إليه.
ومن أدلة مشروعية المولد، أن امرأة ضربت الدف على رأسه Tبعد عودته سالما.
كما ذكر ابن عباد في رسالته إن للمولد النبوي مستندا وهو أن امرأة جاءت إلى النبي T عند قفوله من بعض غزواته، فقالت:إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب على رأسك بالدف فقال لها T:أوفي بنذرك. رواه ابن حبان
والنبي T أمرها بالوفاء بنذرها لما كان سبب ذلك فرحها بسلامته T ولم يجعل ذلك بمنزلة من نذر معصية في عدم لزوم الوفاء به.
وقد وصف الله الرسول Tبالرحمة فقال: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ).
وأكد هذا المعنى بالنفي والإثبات وهو من أدوات الحصر، وبإطلاق المصدر إيذانا بأنه T عين الرحمة ومبالغة في وصفه بالرحمة الكاملة.
وقد أمرنا أن نفرح بفضل الله ورحمته فقالك قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ).
الفرحة بالرسول
فيستنتج من الآيتين أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نفرح بالرسول T الذي كان مولده من أعظم النعم علينا، وقد ذكر بعض المفسرين كالألوسي، أنه يجوز أن يراد بالرحمة النبي T ،وأن الله أمرنا أن نفرح به T .
ومن أدلة مراعاة مناسبة المولد أيضا:أن وفاة الرسول Tكانت يوم الإثنين، ومراعاة لهذه المناسبة، تمنى أبو بكر أن تكون وفاته أيضا يوم الإثنين، وهذا من مراعاة المناسبات والتبرك بها، والاحتفال بالمولد من هذا المعنى.
فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على أبي بكرZ فقال:في كم كفنتم النبي T ،قالت في ثلاثة أثواب بيض سحولية،ليس فيها قميص ولا عمامة، وقال لها:في أي يوم توفي النبي T ؟قالت يوم الإثنين، قال:أرجو فيما بيني وبين الليل )
قال القسطلاني:وترجى الصديق رضي الله عنه أن يموت يوم الإثنين لقصد التبرك وحصول الخير لكونه عليه السلام توفي فيه، فله مزية على غيره من الأيام بهذا الاعتبار.