لغز بدأ به فيلم "رسائل البحر" وانتهى به.. ذلك العمل المصاغ بحنكة داود عبد السيد، مؤلف الفيلم ومخرجه، والذي يحمل رسائل أخرى، بخلاف رسائل البحر، قد لا تجد التردد الصحيح لعقول المتلقين، الذين ينتظرون عبد السيد بعد غياب عن السينما استمر لأعوام سبعة، ويتعطشون لتذوق ما سيأتي به المبدع الفذ.
ولأن البحر لا يبوح بأسراره كاملة لأحد، فإن رسائله لا يمكن أن تكون واضحة تامة المعنى كتلك التي يمكنك أن تتلقاها من أي أحد أو جهة، إنما هي رسائل برائحة الغموض، تثير تساؤلات أكثر مما تجيب عليها، وهو بالضبط ما نجح فيه المؤلف والمخرج.
رسائل البحر يشبه مباراة كرة قدم ممتعة، مليئة بالجمل التكتيكية والمهارات الفردية العالية، لكنها انتهت بالتعادل السلبي بدون أهداف.. جمل تكتيكية كتبها داود عبد السيد بقلم حمل خبرة سنوات، وبكاميرا رسمت بكل مشهد لوحة فنية مبهرة، ومهارات فردية عالية من آسر ياسين "يحيى" وبسمة "نورا" ومحمد لطفي "قابيل" وصلاح عبد الله "الحاج هاشم" ونبيهة لطفي "فرانشيسكا"، لكن نتيجة ذلك هو أن رسائل البحر وصلت إلى آسر ياسين، بخلاف رسائل الفيلم التي لم تصل مباشرة إلى الجماهير، بل وصلت بنهايات مفتوحة غامضة، وبلغة غير مفهومة، تمامًا كتلك الرسالة التي حملتها زجاجة في البحر إلى يحيى، والتي حار في تفسيرها، بل في معرفة لغتها من الأساس.
لجأ عبد السيد في فيلمه إلى لغة الترميز وحوار الإيحاءات، لكنه أفرط في استخدام رموزه وإيحاءاته إلى درجة فقدت معها بعض هذه الرموز دلالاتها، فحياة الطبيب الشاب "يحيى" الذي ترك الطب لأنه لم يحتمل تهكم المرضى والممرضات وحتى زملائه على داء التهتهة الذي يعقد لسانه ويجعله عاجزًا عن البوح بما في نفسه بطلاقة، عبارة عن مجموعة من الرموز نادرًا ما تجتمع في إنسان واحد.
تركه الطب وعمله صيادًا رمز، وشربه الخمر رمز، وعربدته في شوارع الإسكندرية رمز، وسماعه الموسيقى من شباك مجهول رمز، حتى علاقته بقابيل، البودي جارد الذي شبّه نفسه بخيال المآتة، أيضًا رمز.
الفيلم يحمل دعوة صريحة إلى تقبل الآخر كما هو، وهو ما تجلى في زواج يحيى من نورا رغم علمه بأنها فتاة ليل تحصل بجسدها على قوتها، بعد جدل دار بينهما كانت هي من خلاله غير راضية عن هذه الزيجة على اعتبار أنها لا تليق بحبيبها، وبلغ تقبل يحيى لنورا درجة فائقة عندما أرادها أن تحتفظ بجنينها رغم أنه لا يعلم من هو والد هذا الجنين، كما يقدم الفيلم تناقضات الحياة التي تلتقي ليكمل بعضها بعضًا، وعلى سبيل المثال فإن قابيل رمز للقوة الجسدية الرهيبة والخوف المفرط من المرض في الوقت ذاته، والحاج هاشم رمز للقوة الغاشمة، وأيضًا للعجز عن صيد السمك بالطرق المشروعة.
يحيى طبيب مع إيقاف التنفيذ، كما وصف نفسه في الفيلم، فهو لا يمارس الطب بعد أن أصبح مسخة بسبب عاهة النطق التي تلازمه، وقابيل قوي مع إيقاف التنفيذ، فرغم عمله كـ"بودي جارد" إلا أنه أخذ عهدًا سريًا مع نفسه ألا يعتدي على أحد مهما حدث، بعد أن انهال على شاب بالضرب قبل سنوات وتسبب في وفاته، ونورا أيضًا زوجة مع إيقاف التنفيذ، فهي فتاة ليل بالأساس، لكنها تزوجت من رجل - كان أحد زبائنها - لا تحبه لكنه طلب الزواج منها على أن يظل صنبور أمواله مفتوحًا عليها وتظل هي له وحده، هكذا يطرح الفيلم فكرة العجز بكافة أنواعه، وينتزع تعاطفك - كمشاهد - مع معظم الشخصيات حتى لو لم تكن سوية.
وكعادة أفلام السنوات القليلة الماضية، لم يخلُ "رسائل البحر" من الإشارة إلى المثلية الجنسية بين "كارلا" الممثلة "سامية أسعد" وريهام "دعاء حجازي"، حتى لو كانت هذه المثلية غير منطقية، لأن كارلا، الفتاة الإيطالية التي تعيش بالإسكندرية مع والدتها، كانت تهيم عشقًا بيحيى، لكنها غيَّرت وجهات نظرها في الجنس وتركت نفسها لرغبات غير موجودة بها من الأساس، وهي الانجذاب لبنات جنسها.
إذا كنت ممن يحبون الاستمتاع بالأداء التمثيلي والإبهار في الإخراج والإضاءة والموسيقى التصويرية، فإنك ستجد ضالتك في هذا الفيلم، وإذا كنت ممن يفتشون فيما بين الثنايا عن معانٍ مستترة ورموز بعيدة، فإنك ستعتبر هذا الفيلم من أجمل ما رأيت في حياتك.