القرآن مصدر خصب للتفكير، ونصوصه كثيفة جداً تتيح المجال للمفكرين في كل عصر أن يأتوا بالجديد منها، وهذا هو الإعجاز الحقيقي، لأن الإسلام دين لكل الناس في كل العصور. وخير شاهد على ذلك قصة سيدنا يوسف، حيث نجد الجديد دائماً فيما يتعلق بها، لا سيما الجزء المرتبط بموقفه مع امرأة العزيز، وذكاء هذه المرأة العقلي والعاطفي الذي سخرته على أقصى مدى.
بينت في مقالة سابقة (إبداع المرأة في القرآن والسنة) جوانب من الأفكار والأساليب الماهرة التي تفتق عنها دهاء هذه المرأة، وأنها تحكمت في نفسها في أصعب المواقف، على عكس ما يقال عن المرأة بأنها عاطفية يطيش عقلها في المواقف الصعبة.
تركزت الاختلافات في قصة سيدنا يوسف على مسألة الهم والبرهان والتي وردت في الآية: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)، ما هو الهم؟ وهل يهم النبي بالمعصية صغيرة كانت أو كبيرة، وهل من فرق بين وضع النبي قبل النبوة وبعدها.
نحن أمام آراء متنوعة، فمنها ما يعكس الطبيعة البشرية للأنبياء، ومنها ما لا يطيق أن يسمع في النبي والإمام والولي لا صغيرة ولا كبيرة، ومنها ما يجعل الأنبياء مجرد مبلغين كالملائكة لا يعصون الله ما أمرهم.
يلتقي الرأي الثاني مع الثالث في عصمة النبي لكن أساس الثاني ديني تعصبي، وأساس الثالث عقلي يقوم على فكرة أن العقل من طبيعة ثابتة لا تتغير، والنبي لا يجوز أن يجتهد ولا أن يفكر حتى مجرد تفكير في أي معصية من أي نوع.
الهمّ والبرهان
يروي لنا المفسرون عن ابن عباس وغيره أن يوسف همّ بأن يجيب المرأة إلى ما طلبته منه، لكن انصرف عن ذلك عندما رأى البرهان. وهذا هم بالسيئة لكنه لم يحصل، وليس بكبيرة فلا ينافي عصمة الأنبياء، وهو حصل أيضاً قبل النبوة.
وهناك من قال أنه تهيأ بالفعل للأمر لكنه رأى البرهان فانصرف. هذه الآراء مروية عن ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة وثعلب والسدي، من كبار الأئمة.
هذا الاتجاه يعكس الطبيعة البشرية الواقعية للأنبياء وأنهم يمكن أن يتصرفوا كبشر، لكن الله يساعدهم في عدم الوقوع في مثل هذه المواقف. بالمقابل نجد من ينكر مجرد الهم أو أنه ميل انفعالي لا يؤاخذ عليه أي شخص، وان الله قد عصم الأنبياء سلفاً من أن يقعوا في أي معصية مهما صغرت أو كبرت قبل النبوة وبعدها. ليس وارداً في منطق هؤلاء أن يخطيء النبي أو أن يجتهد، وكل ما يصدر عنه يتسم بالعصمة التامة.
أما الرأي في البرهان فيلخصه لنا المفسر ابن عاشور ك: (واختلف المفسرون في ما هو هذا البرهان، فمنهم من يشير إلى أنه حجة نظرية قبّحت له هذا الفعل، وقيل: هو وحي إلهي، وقيل: حفظ إلهي، وقيل: مشاهدات تمثلت له). وقد خاض المفسرون في تفصيلاته بشكل واسع، حتى قيل انه رأى أباه ونهاه عن المعصية، وغير ذلك.
رأي جديد
هذا رأي جديد يُخرج الهمّ عن دائرة التفكير الجنسي إلى دائرة أخرى، وقد ذكره الأستاذ عطية زاهدة في كتابه "خبايا وخفايا قصة يوسف". سيدنا يوسف عصمه الله تماماً عن مجرد التفكير في تلك المرأة فضلاً عن أن يهمّ بها أو يستجيب لها. بحسب هذه النظرة فإن الله صرف سيدنا يوسف عن مقدمات الزنا وعن الوقوع فيه، وعن إرادة السوء بامرأة العزيز.
ويفسر الهم بأنه التخطيط من كل من المرأة وسيدنا يوسف ليفضح كل منهما الآخر أمام زوج المرأة. فهي تريد أن تسبق يوسف إلى زوجها لتخبره بما فعل بها يوسف من سوء. وهو يريد أن يسبقها ليخبره بأنها هي التي راودته وليس هو. إذن الهم هنا ليس له علاقة بالناحية الجنسية مطلقاً.
أما البرهان فهو القميص، وهو الذي خلص يوسف من الموقف، والقميص هو اللباس الداخلي، وقد حرصت المرأة على أن يكون يوسف بهذا اللباس، ولكن بشكل طبيعي لا يحس به يوسف الذي انتبه إلى أن ظهوره بالقميص يضعف موقفه أمام سيده، وهذا خلق نوعاً من التلكؤ لديه فسبقته المرأة إلى زوجها.
ومع ذلك فقد خلصه القميص من الورطة لأنه ثبت أنه قد جرى تمزيقه من الخلف. هذا البرهان حسي مادي، بخلاف برهان ورؤية المفسرين الذين قالوا أن الرؤية علمية والبرهان معنوي لا يرى بالبصر.
رأينا
ما يراه الأستاذ عطية زاهدة، وهو مفكر إسلامي من فلسطين، لا يخرج عن إطار المفكرين العقليين وكذلك الذين يرون عصمة الأنبياء وعدم إمكانية حتى أن يفكروا بالمعصية، لكنه أخرج الهم من دائرة الجنس إلى دائرة التخطيط.
الأنبياء بحسب هذا التيار أشبه بالملائكة لا يأتون أي مخالفة مهما كانت. حتى إن هذا التيار نفى أن يجتهد النبي، مع أن القرآن يخبرنا بمواقف تعرض لها النبي وعاتبه الله عليها، مثل موقفه مع الأعمى في سورة عبس، ومع أسرى بدر، وكذلك موقفه من تأبير النخل، ومن موضع الجيش في معركة بدر.
الهمّ في اللغة أول العزيمة، وهو النية للفعل سواء حصل في الواقع أم لم يحصل، لكنه محمول على أنه لا يحصل في الواقع. فهل يتصور أن ننزع عن الرسول مجرد الهم أي مجرد التفكير ولو بشكل غريزي طبيعي في أي أمر من الأمور؟ لقد اختار الله النبي من البشر أنفسهم ومن طبيعتهم، لكنه يتميز عنهم في أنه معصوم في التبليغ.
لكنه يبقى من البشر، ويصلح لأن يكون قدوة عملية، وله ميزة أن الله يصرف عنه السوء والفحشاء. وهذا في حد ذاته درس لنا. فنحن لا بد أن نستعين بالله على أن يصرفنا أيضاً عن مواضع السوء، فنحن أضعف من الأنبياء، وهم لديهم قدرة عالية على السيطرة، ومع ذلك يحتاجون إلى مساعدة الله، فكيف بنا؟ الموقف الذي تعرض له سيدنا يوسف في غاية الشدة.
فالمرأة سيدة، وجميلة وجذابة، والوضع خلوة شديدة المستوى، وسيدنا يوسف جميل جذاب، فالتلقائية هنا على أشدها، ومهما بلغت القدرة على السيطرة فلا بد من الاستعانة بالله، ولا بد من تدخل القدرة الإلهية، وهذا ليس ببعيد عن الأنبياء، وليس ببعيد عنا أيضاً كبشر عاديين.
الرسول رأى امرأة
يروي لنا الإمام مسلم: (أن رسول الله رأى امرأة، فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته. ثم خرج إلى أصحابه، فقال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه).
وفي رواية: (إذا أحدكم أعجبته المرأة، فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه). تمعس: تدلك بشدة، المنيئة: الجلد أول ما يدبغ.
هذا نشاط طبيعي من الرسول يعلمنا فيه كيف نتصرف عندما نتعرض لمثل هذه المواقف. لكنك تستغرب من التأويلات المتنوعة التي تخرج الموضوع عن إطاره، لدرجة أن هناك من ضعف هذه الروايات مع أنها في صحيح مسلم.
وممن شكك فيها الإمام الذهبي حتى قال: (في القلب من هذا الحديث شيء). ولا تستغرب أن تجد تفسيرات قد تقبل بعضها وقد لا تقبله، من مثل أنها نظرة الفجاءة، وأن ذلك قبل الحجاب، أو أنه مجرد انفعال، أو أنه نظر إلى الملابس الخارجية وغير ذلك. وهل يمكن أن نستنبط من هذا الحديث أن تلك المرأة كانت كاشفة الوجه مثلاً؟ لا تستغرب!
بينت في مقالة سابقة (إبداع المرأة في القرآن والسنة) جوانب من الأفكار والأساليب الماهرة التي تفتق عنها دهاء هذه المرأة، وأنها تحكمت في نفسها في أصعب المواقف، على عكس ما يقال عن المرأة بأنها عاطفية يطيش عقلها في المواقف الصعبة.
تركزت الاختلافات في قصة سيدنا يوسف على مسألة الهم والبرهان والتي وردت في الآية: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)، ما هو الهم؟ وهل يهم النبي بالمعصية صغيرة كانت أو كبيرة، وهل من فرق بين وضع النبي قبل النبوة وبعدها.
نحن أمام آراء متنوعة، فمنها ما يعكس الطبيعة البشرية للأنبياء، ومنها ما لا يطيق أن يسمع في النبي والإمام والولي لا صغيرة ولا كبيرة، ومنها ما يجعل الأنبياء مجرد مبلغين كالملائكة لا يعصون الله ما أمرهم.
يلتقي الرأي الثاني مع الثالث في عصمة النبي لكن أساس الثاني ديني تعصبي، وأساس الثالث عقلي يقوم على فكرة أن العقل من طبيعة ثابتة لا تتغير، والنبي لا يجوز أن يجتهد ولا أن يفكر حتى مجرد تفكير في أي معصية من أي نوع.
الهمّ والبرهان
يروي لنا المفسرون عن ابن عباس وغيره أن يوسف همّ بأن يجيب المرأة إلى ما طلبته منه، لكن انصرف عن ذلك عندما رأى البرهان. وهذا هم بالسيئة لكنه لم يحصل، وليس بكبيرة فلا ينافي عصمة الأنبياء، وهو حصل أيضاً قبل النبوة.
وهناك من قال أنه تهيأ بالفعل للأمر لكنه رأى البرهان فانصرف. هذه الآراء مروية عن ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة وثعلب والسدي، من كبار الأئمة.
هذا الاتجاه يعكس الطبيعة البشرية الواقعية للأنبياء وأنهم يمكن أن يتصرفوا كبشر، لكن الله يساعدهم في عدم الوقوع في مثل هذه المواقف. بالمقابل نجد من ينكر مجرد الهم أو أنه ميل انفعالي لا يؤاخذ عليه أي شخص، وان الله قد عصم الأنبياء سلفاً من أن يقعوا في أي معصية مهما صغرت أو كبرت قبل النبوة وبعدها. ليس وارداً في منطق هؤلاء أن يخطيء النبي أو أن يجتهد، وكل ما يصدر عنه يتسم بالعصمة التامة.
أما الرأي في البرهان فيلخصه لنا المفسر ابن عاشور ك: (واختلف المفسرون في ما هو هذا البرهان، فمنهم من يشير إلى أنه حجة نظرية قبّحت له هذا الفعل، وقيل: هو وحي إلهي، وقيل: حفظ إلهي، وقيل: مشاهدات تمثلت له). وقد خاض المفسرون في تفصيلاته بشكل واسع، حتى قيل انه رأى أباه ونهاه عن المعصية، وغير ذلك.
رأي جديد
هذا رأي جديد يُخرج الهمّ عن دائرة التفكير الجنسي إلى دائرة أخرى، وقد ذكره الأستاذ عطية زاهدة في كتابه "خبايا وخفايا قصة يوسف". سيدنا يوسف عصمه الله تماماً عن مجرد التفكير في تلك المرأة فضلاً عن أن يهمّ بها أو يستجيب لها. بحسب هذه النظرة فإن الله صرف سيدنا يوسف عن مقدمات الزنا وعن الوقوع فيه، وعن إرادة السوء بامرأة العزيز.
ويفسر الهم بأنه التخطيط من كل من المرأة وسيدنا يوسف ليفضح كل منهما الآخر أمام زوج المرأة. فهي تريد أن تسبق يوسف إلى زوجها لتخبره بما فعل بها يوسف من سوء. وهو يريد أن يسبقها ليخبره بأنها هي التي راودته وليس هو. إذن الهم هنا ليس له علاقة بالناحية الجنسية مطلقاً.
أما البرهان فهو القميص، وهو الذي خلص يوسف من الموقف، والقميص هو اللباس الداخلي، وقد حرصت المرأة على أن يكون يوسف بهذا اللباس، ولكن بشكل طبيعي لا يحس به يوسف الذي انتبه إلى أن ظهوره بالقميص يضعف موقفه أمام سيده، وهذا خلق نوعاً من التلكؤ لديه فسبقته المرأة إلى زوجها.
ومع ذلك فقد خلصه القميص من الورطة لأنه ثبت أنه قد جرى تمزيقه من الخلف. هذا البرهان حسي مادي، بخلاف برهان ورؤية المفسرين الذين قالوا أن الرؤية علمية والبرهان معنوي لا يرى بالبصر.
رأينا
ما يراه الأستاذ عطية زاهدة، وهو مفكر إسلامي من فلسطين، لا يخرج عن إطار المفكرين العقليين وكذلك الذين يرون عصمة الأنبياء وعدم إمكانية حتى أن يفكروا بالمعصية، لكنه أخرج الهم من دائرة الجنس إلى دائرة التخطيط.
الأنبياء بحسب هذا التيار أشبه بالملائكة لا يأتون أي مخالفة مهما كانت. حتى إن هذا التيار نفى أن يجتهد النبي، مع أن القرآن يخبرنا بمواقف تعرض لها النبي وعاتبه الله عليها، مثل موقفه مع الأعمى في سورة عبس، ومع أسرى بدر، وكذلك موقفه من تأبير النخل، ومن موضع الجيش في معركة بدر.
الهمّ في اللغة أول العزيمة، وهو النية للفعل سواء حصل في الواقع أم لم يحصل، لكنه محمول على أنه لا يحصل في الواقع. فهل يتصور أن ننزع عن الرسول مجرد الهم أي مجرد التفكير ولو بشكل غريزي طبيعي في أي أمر من الأمور؟ لقد اختار الله النبي من البشر أنفسهم ومن طبيعتهم، لكنه يتميز عنهم في أنه معصوم في التبليغ.
لكنه يبقى من البشر، ويصلح لأن يكون قدوة عملية، وله ميزة أن الله يصرف عنه السوء والفحشاء. وهذا في حد ذاته درس لنا. فنحن لا بد أن نستعين بالله على أن يصرفنا أيضاً عن مواضع السوء، فنحن أضعف من الأنبياء، وهم لديهم قدرة عالية على السيطرة، ومع ذلك يحتاجون إلى مساعدة الله، فكيف بنا؟ الموقف الذي تعرض له سيدنا يوسف في غاية الشدة.
فالمرأة سيدة، وجميلة وجذابة، والوضع خلوة شديدة المستوى، وسيدنا يوسف جميل جذاب، فالتلقائية هنا على أشدها، ومهما بلغت القدرة على السيطرة فلا بد من الاستعانة بالله، ولا بد من تدخل القدرة الإلهية، وهذا ليس ببعيد عن الأنبياء، وليس ببعيد عنا أيضاً كبشر عاديين.
الرسول رأى امرأة
يروي لنا الإمام مسلم: (أن رسول الله رأى امرأة، فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته. ثم خرج إلى أصحابه، فقال: إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه).
وفي رواية: (إذا أحدكم أعجبته المرأة، فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه). تمعس: تدلك بشدة، المنيئة: الجلد أول ما يدبغ.
هذا نشاط طبيعي من الرسول يعلمنا فيه كيف نتصرف عندما نتعرض لمثل هذه المواقف. لكنك تستغرب من التأويلات المتنوعة التي تخرج الموضوع عن إطاره، لدرجة أن هناك من ضعف هذه الروايات مع أنها في صحيح مسلم.
وممن شكك فيها الإمام الذهبي حتى قال: (في القلب من هذا الحديث شيء). ولا تستغرب أن تجد تفسيرات قد تقبل بعضها وقد لا تقبله، من مثل أنها نظرة الفجاءة، وأن ذلك قبل الحجاب، أو أنه مجرد انفعال، أو أنه نظر إلى الملابس الخارجية وغير ذلك. وهل يمكن أن نستنبط من هذا الحديث أن تلك المرأة كانت كاشفة الوجه مثلاً؟ لا تستغرب!