السلام عليكم
نسيم الامة العربية ...لغتها لغة الضاد ..انها اللغة العربية ..لغة اهل الجنة ...لغة القران الكريم....فلماذا اصبحت لغتنا لا تواكب لغات العالم في عصرنا هذا ..هل العيب في اللغة ام العيب فينا ...فاللغة هي نفسها لم تتغير منذ ان وجدت ...انما نحن من نتغير ..بالامس لما كان اسلافنا في قمة عطائهم و مجدهم ارتقت لغتهم و اصبحت السائدة و واجبروا العجم على تعلمها ..ليس بقوة السيف كما يتوهم البعض من الحاقدين على لغتنا و امتها امة محمد عليه الصلاة و السلام ..انما بقوة العلم و الابداع ..بقوة الاخلاق الاسلامية ...بقوة فن التعامل ..لقد تفنن اسلافنا في شتى الميادين و ابدعوا في كل المجالات العلمية ..الطب ..و من منا لا يعرف ابن سيناء و ابن رشد..في الاجتماع و من منا لا يعرف ابن خلدون ..في الجبر و من منا لا يعرف الخوارزمي ..في الكمياء و من منا لا يعرف جابر بن حيان ...و القائمة تطول ...و اسال التاريخ يجيبك ماذا فعلت امتي في عصور سبقت ..اسال عقبة بن نافع و من بعده طارق بن زياد اللذي فتح الاندلس ..اسال قصر حمراء يخبرك عني ..و الغريب في كل هذا ان معظم العلماء السابق ذكرهم و مثلهم كثير ليسوا من اصول عربية بل انهم عرب باللسان ..تعلموا العربية و اخذوا العلم بها ..و لم تكن لهم عقدة في ذالك بل انهم كانوا يفتخرون لانهم اتقنوا لغة القران ..و الاغرب من ذالك ..ان امام العربية و شيخ النحاة اللذي اليه ينتهون ..و له كتاب في النحو يسمى "الكتاب" انه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر البصري، المعروف بسيبَوَيه لم يكن عربي الاصل ...و مع ذالك لم تكن له عقدة في تعلم اللغة العربية و تعليمها الى غيره بل انه ابدع فيها و الف الكتب ...اين نحن من هؤلاء
لماذا كانت لغتهم العربية لغة علم يتعلمها غيرهم و لماذا اصبحت في عصرنا مجرد لغة شعر اكل عليها الدهر و شرب ...لماذا اصبحنا نخجل بلغتنا في هذا العصر ..و نتعشق في لغة غيرنا من العجم ...فالاجابة بسيطة فكل العيب فينا و ليس في لغتنا ..لقد اصبحنا في هذا العصر امة مستهلكة عاجزة على الابداع و الانتاج فماتت قلوبنا و مات معها الطموح و الارادة و الابداع ...فماتت لغتنا ..والله انه امر مخزي كيف نقابل اسلافنا و نحن على هذا الحال ..نزداد سوءا على سوء ..ان الامر بايدنا ... "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" و مهما تكلمت عن حال لغتنا و مستقبلها ..فلن اجد مقالا اصدق تعبيرا كما جاء في مقالة الاديب جبران خليل جبران ..اللذي ابدع كعادته و اعطانا حلولا كي ننهض بلغتنا و نعيدها مكانتها الاولى ..فاللغة العربية رائدة و لن تكون الا كذالك
احبتي في الله اترككم مع هذا المقال الرائع لجبران خليل جبران و لن تندموا ابدا
مستقبل اللغة العربية
بقلم جبران خليل جبران
-1 ما هو مستقبل اللغة العربية ؟
إنّما اللغة مظهر من مظاهر الأبتكار في مجموع الأمّة ، أو ذاتها
العامّة ، فإذا هجعت قوّة الابتكار توقفت اللغة عن مسيرها ، وفي
الوقوف التقهقر وفي التقهقر الموت والاندثار .
إذًا فمستقبل اللغة العربية يتوقف على مستقبل الفكر المبدع
الكائن - أو غير الكائن - في مجموع الأمم التي تتكلم اللغة
العربية . فإن آان ذلك الفكر موجودًا آان مستقبل اللغة عظيمًا
آماضيها ، وإن آان غير موجود فمستقبلها سيكون آحاضر
شقيقتيها السريانية والعبرانية .
وما هذه القوّة التي ندعوها بقوّة الابتكار ؟
هي في الأمّة عزم دافع إلى الأمام . هي في قلبها جوع وعطش
وشوق إلى غير المعروف ، وفي روحها سلسلة أحلام تسعى إلى
تحقيقها ليلا ونهارًا ولكنّها لا تحقّق حلقة من أحد طرفيها إلا أضافت
الحياة حلقة جديدة في الطرف الآخر . هي في الأفراد النبوغ وفي
الجماعة الحماسة ، وما النبوغ في الأفراد سوى المقدرة على
وضع ميول الجماعة الخفية في أشكال ظاهرة محسوسة .
ففي الجاهلية آان الشاعر يتأهّب لأنّ العرب آانوا في حالة
التأهّب ، وآان ينمو ويتمدّد أيّام المخضرمين لأنّ العرب آانوا في
حالة النموّ والتمدّد ، وآان يتشعّب أيّام المولدين لأنّ الأمّة
الإسلامية آانت في حالة التشعّب . وظل الشاعر يتدرّج ويتصاعد
ويتلوّن فيظهر آنًا آفيلسوف ، وآونة آطبيب ، وأخرى آفلكي ، حتى
راود النعاس قوّة الابتكار في اللغة العربية فنامت وبنومها تحوّل
الشعراء إلى ناظمين والفلاسفة إلى آلاميين والأطبّاء إلى دجّالين
والفلكيون إلى منجّمين .
إذا صحّ ما تقدّم آان مستقبل اللغة العربية رهن قوّة الابتكار في
مجموع الأمم التي تتكلمها ، فإن آان لتلك الأمم ذات خاصّة أو
وحدة معنويّة وآانت قوّة الابتكار في تلك الذات قد استيقظت بعد
نومها الطويل آان مستقبل اللغة العربية عظيمًا آماضيها ، وإلا فلا .
-2 وما عسى أن يكون تأثير التمدين الأوروبّي والروح الغربية فيها ؟
إنما التأثير شكل من الطعام تتناوله اللغة من خارجها فتمضغه
وتبتلعه وتحوّل الصالح منه إلى آيانها الحيّ آما تحوّل الشجرة النور
والهواء وعناصر التراب إلى أفنان فأوراق فأزهار فأثمار . ولكن إذا
آانت اللغة بدون أضراس تقضم ولا معدة تهضم فالطعام يذهب
سُدًى بل ينقلب سمًّا قاتلا . وآم من شجرة تحتال على الحياة
وهي في الظل فإذا ما نُقلت إلى نور الشمس ذبُلت وماتت . وقد
جاء : من له يُعطى ويُزاد ومن ليس له يؤخذ منه .
وأمّا الروح الغربيّة فهي دور من أدوار الإنسان وفصل من فصول
حياته . وحياة الإنسان موآب هائل يسير دائمًا إلى الأمام ، ومن
ذلك الغبار الذهبي المتصاعد من جوانب طريقه تتكوّن اللغات
والحكومات والمذاهب . فالأمم التي تسير في مقدمة هذا الموآب
هي المبتكرة ، والمبتكر مؤثر ؛ والأمم التي تمشي في مؤخرته
هي المقلدة ، والمقلد يتأثر ، فلمّا آان الشرقيون سابقين
والغربيون لاحقين آان لمدنيتنا التأثير العظيم في لغاتهم ، وها قد
أصبحوا هم السابقين وأمسينا نحن اللاحقين فصارت مدنيتهم
بحكم الطبع ذات تأثير عظيم في لغتنا وأفكارنا وأخلاقنا .
بيد أن الغربيين آانوا في الماضي يتناولون ما نطبخه فيمضغونه
ويبتلعونه محوّلين الصالح منه إلى آيانهم الغربي ، أما الشرقيون
في الوقت الحاضر فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه ولكنه لا
يتحوّل إلى آيانهم بل يحوّلهم إلى شبه غربيين ، وهي حالة
أخشاها وأتبرّم منها لأنها تبين لي الشرق تارة آعجوز فقد أضراسه
وطورًا آطفل بدون أضراس !
إنّ روح الغرب صديق وعدوّ لنا . صديق إذا تمكنّا منه وعدوّ إذا تمكّن
منا . صديق إذا فتحنا له قلوبنا وعدوّ إذا وهبنا له قلوبنا . صديق إذا
أخذنا منه ما يوافقنا وعدوّ إذا وضعنا نفوسنا في الحالة التي
توافقه .
-3 وما يكون تأثير التطوّر السياسي الحاضر في الأقطار العربية ؟
قد أجمع الكتاب والمفكرون في الغرب والشرق على أن الأقطار
العربية في حالة التشويش السياسي والإداري والنفسي . ولقد
اتفق أآثرهم على أن التشويش مجلبة الخراب والاضمحلال .
أمّا أنا فأسأل : هل هو تشويش أم ملل ؟
إن آان مللا فالملل نهاية آل أمّة وخاتمة آل شعب . الملل هو
الاحتضار في صورة النعاس ، والموت في شكل النوم .
وإن آان بالحقيقة تشويشًا فالتشويش في شرعي ينفع دائمًا لأنه
يُبيّن ما آان خافيًا في روح الأمّة ويبدّل نشوتها بالصحو وغيبوبتها
باليقظة ونظير عاصفة تهزّ بعزمها الأشجار لا لتقلعها بل لتكسر
أغصانها اليابسة وتبعثر أوراقها الصفراء . وإذا ما ظهر التشويش في
أمّة لم تزل على شيء من الفطرة فهو أوضح دليل على وجود قوّة
الابتكار في أفرادها والاستعداد في مجموعها . إنّما السديم أوّل
آلمة من آتاب الحياة وليس بآخر آلمة منها ، وما السديم سوى
حياة مشوّشة .
إذًا فتأثير التطوّر السياسي سيحوّل ما في الأقطار العربية من
التشويش إلى نظام ، وما في داخلها من الغموض والإشكال إلى
ترتيب وألفة ، ولكنه لا ولن يبدّل مللها بالوجد وضجرها بالحماسة .
إنّ الخزّاف يستطيع أن يصنع من الطين جرّة للخمر أو للخل ولكنه لا
يقدر أن يصنع شيئا من الرمل والحصى .
-4 هل يعُمّ انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية
وتُعلّم بها جميع العلوم ؟
لا يعُمّ انتشار اللغة في المدارس العالية وغير العالية حتى تصبح
تلك المدارس ذات صبغة وطنية مجردة ولن تُعلم بها جميع العلوم
حتى تنتقل المدارس من أيدي الجمعيات الخيرية واللجان الطائفية
والبعثات الدينية إلى أيدي الحكومات المحلية .
ففي سوريا مثلا آان التعليم يأتينا من الغرب بشكل الصدقة ، وقد
آنا ولم نزل نلتهم خبز الصدقة لأننا جياع متضوّرون ، ولقد أحيانا
ذلك الخبز ، ولما أحيانا أماتنا . أحيانا لأنه أيقظ جميع مدارآنا ونبه
عقولنا قليلا ، وأماتنا لأنه فرق آلمتنا وأضعف وحدتنا وقطع روابطنا
وأبعد ما بين طوائفنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات
صغيرة مختلفة الأذواق متضاربة المشارب آل مستعمرة منها تشد
في حبل إحدى الأمم الغربية وترفع لواءها وتترنم بمحاسنها
وأمجادها . فالشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة
أميرآية قد تحوّل بالطبع إلى معتمد أميرآي ، والشاب الذي تجرع
رشفة من العلم في مدرسة يسوعية صار سفيرًا فرنسيًا ،
والشاب الذي لبس قميصًا من نسيج مدرسة روسية أصبح ممثلا
لروسيا ... إلى آخر ما هناك من المدارس وما تخرجه في آل عام
من الممثلين والمعتمدين والسفراء . وأعظم دليل على ما تقدم
اختلاف الآراء وتباين المنازع في الوقت الحاضر في مستقبل سوريا
السياسي . فالذين درسوا بعض العلوم باللغة الانكلبزبة يريدون
أميرآا أو انكلترا وصيّة على بلادهم ، والذين درسوها باللغة
الفرنسية يطلبون فرنسا أن تتولى أمرهم ؛ والذين لم يدرسوا بهذه
اللغة أو بتلك لا يريدون هذه الدولة ولا تلك بل يتبعون سياسة
أدنى إلى معارفهم وأقرب إلى مدارآهم .
وقد يكون ميلنا السياسيّ إلى الأمة التي نتعلم على نفقتها دليلا
على عاطفة عرفان الجميل في نفوس الشرقيين ، ولكن ما هذه
العاطفة التي تبني حجرًا من جهة واحدة وتهدم جدارًا من الجهة
الأخرى ؟ ما هذه العاطفة التي تستنبت زهرة وتقتلع غابة ؟ ما
هذه العاطفة التي تحيينا يومًا وتميتنا دهرًا ؟
إن المحسنين الحقيقيين وأصحاب الأريحية في الغرب لم يضعوا
الشوك والحسك في الخبز الذي بعثوا به إلينا ، فهم بالطبع قد
حاولوا نفعنا لا الضرر بنا . ولكن آيف تولد ذلك الشوك ومن أين أتى
ذلك الحسك ؟ هذا بحث آخر أترآه إلى فرصة أخرى .
نعم سوف يعمّ انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير
العالية وتعلم بها جميع العلوم فتتوحد ميولنا السياسية وتتبلور
منازعنا القومية لأن في المدرسة تتوحّد الميول وفي المدرسة
تتجوهر المنازع ، ولكن لا يتم هذا حتى يصير بإمكاننا تعليم الناشئة
على نفقة الأمّة . لا يتم هذا حتى يصير الواحد منا ابنًا لوطن واحد
بدلا من وطنين متناقضين أحدهما لجسده والآخر لروحه . لا يتم
هذا حتى نستبدل خبز الصدقة بخبز معجون في بيتنا ، لأن
المتسوّل المحتاج لا يستطيع أن يشترط على المتصدق الأريحيّ .
ومن يضع نفسه في منزلة الموهوب لا يستطيع معارضة الواهب ،
فالموهوب مسيّر دائمًا والواهب مخيّر أبدًا .
-5 وهل تتغلب اللغة العربية الفصحى على اللهجات العامبة
المختلفة وتوحّدها ؟
إنّ اللهجات العامية تتحوّر وتتهذب ويُدلّك الخشن فيها فَيَلين ولكنها
لا ولن تغلب - ويجب ألا تغلب - لأنها مصدر ما ندعوه فصيحًا من
الكلام ومنبت ما نعدّه بليغًا من البيان .
إن اللغات تتبع مثل آل شيء آخر سُنّة بقاء الأنسب ، وفي
اللهجات العامية الشيء الكثير من الأنسب الذي سيبقى لأنه
أقرب إلى فكرة الأمة وأدنى إلى مرامي ذاتها العامة . قلت إنه
سيبقى وأعني بذلك أنه سيلتحم بجسم اللغة ويصير جزءًا من
مجموعها .
لكل لغة من لغات الغرب لهجات عامية ، ولتلك اللهجات مظاهر
أدبية
وفنية لا تخلو من الجميل المرغوب والجديد المبتكر ، بل في أوروبا
وأميرآا طائفة من الشعراء الموهوبين الذين تمكنوا من التوفيق بين
العاميّ والفصيح في قصائدهم وموشّحاتهم فجاءت بليغة ومؤثرة .
وعندي أنّ في الموّال والزجل و " العتابا " و" المعنيّ " من الكنايات
المستجدة ، والاستعارات المستملحة والتعابير الرشيقة
المستنبطة ما لو وضعناه بجانب تلك القصائد المنظومة بلغة
فصيحة ، والتي تملأ جرائدنا ومجلاتنا ، لبانت آباقة من الرياحين
بقرب رابية من الحطب ، أو آسرب من الصبايا الراقصات المترنمات
قبالة مجموعة من الجثث المحنطة .
لقد آانت اللغة الإيطالية الحديثة لهجة عامية في القرون
المتوسطة وآان الخاصّة يدعونها بلغة " الهمج " ، ولكن لما نظم
بها دانتي وبترارك وآامونس وفرانسيس داسيزي قصائدهم
وموشّحاتهم الخالدة أصبحت تلك اللهجة لغة إيطاليا الفصحى
وصارت اللاتينية بعد ذلك هيكلا يسير ولكن في نعش على أآتاف
الرجعيين ... و ليست اللهجات العامية في مصر وسوريا والعراق
أبعد عن لغة المعرّي والمتنبّي من لهجة " الهمج " الإيطالية عن
لغة أوفيدي وفرجيل . فإذا ما ظهر في الشرق الأدنى عظيم ووضع
آتابًا عظيمًا في إحدى تلك اللهجات تحوّلت هذه إلى لغة فصحى .
بيد أني أستبعد حدوث ذلك في الأقطار العربية لأن الشرقيين أشد
ميلا إلى الماضي منهم إلى الحاضر أو المستقبل ، فهم
المحافظون ، على معرفة منهم أو على غير معرفة ، فإن قام آبير
بينهم لزم في إظهار مواهبه السبل البيانية التي سار عليها
الأقدمون ، وما سُبل الأقدمين سوى أقصر الطرقات بين مهد الفكر
ولحده .
-6 وما هي خير الوسائل لإحياء اللغة العربية ؟
إنّ خير الوسائل ، بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي في قلب
الشاعر وعلى شفتيه وبين أصابعه ، فالشاعر هو الوسيط بين قوّة
الابتكار والبشر ، وهو السلك الذي ينقل ما يُحدثه عالم النفس إلى
عالم البحث ، وما يقرره عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين .
الشاعر أبو اللغة وأمّها ، تسير حيثما يسير وتربض أينما يربض ، و
إذا
ما قضى جلست على قبره باآية منتحبة حتى يمرّ بها شاعر آخر
ويأخذ بيدها . وإذا آان الشاعر أبا اللغة وأمّها فالمقلد ناسج آفنها
وحافر قبرها .
أعني بالشاعر آل مخترع آبيرًا آان أو صغيرًا ، وآل مكتشف قويًا
آان أو ضعيفًا ، وآل مختلق عظيمًا آان أو حقيرًا ، وآل محبّ للحياة
المجردة إمامًا آان أو صعلوآا ، وآل من يقف متهيّبًا أمام الأيام
والليالي فيلسوفًا آان أو ناطورًا للكروم .
أما المقلد فهو الذي لا يكتشف شيئًا ولا يختلق أمرًا بل يستمدّ
حياته النفسية من معاصريه ويصنع أثوابه المعنويّة من رقع يجزها
من أثواب من تقدّمه .
أعني بالشاعر ذلك الزارع الذي يفلح أرضه بمحراث يختلف ولو قليلا
عن المحراث الذي ورثه عن أبيه فيجيء بعده من يدعو المحراث
الجديد باسم جديد ، وذلك البستاني الذى يستنبت بين الزهرة
الصفراء والزهرة الحمراء زهرة ثالثة برتقالية اللون فيأتي بعده من
يدعو الزهرة الجديدة باسم جديد ، وذلك الحائك ، الذي ينسج على
نوله نسيجًا ذا رسوم وخطوط تختلف عن الأقمشة التي يصنعها
جيرانه الحائكون فيقوم من يدعو نسيجه هذا باسم جديد .
أعنى بالشاعر الملاح الذي يرفع لسفينة ذات شراعين شراعًا
ثالثا ، والبنّاء الذي يبني بيتا ذا بابين ونافذتين بين بيوت آلها ذات
باب واحد ونافذة واحدة ، والصباغ الذي يمزج الألوان التي لم
يمزجها أحد قبله فيستخرج لونًا جديدًا ، فيأتي بعد الملاح والبناء
والصبّاغ من يدعو ثمار أعمالهم بأسماء جديدة فيضيف بذلك شراعًا
إلى سفينة اللغة ونافذة إلى بيت اللغة ولونًا الى ثوب اللغة .
أما المقلد فهو ذاك الذي يسير من مكان إلى مكان على الطريق
التي سار عليها ألف قافلة وقافلة ولا يحيد عنها مخافة أن يتيه
ويضيع ، ذاك الذي يتبع بمعيشته وآسب رزقه ومأآله ومشربه
وملبسه تلك السبل المطروقة التي مشى عليها ألف جيل وجيل
فتظل حياته آرجع الصدى ويبقى آيانه آظل ضئيل لحقيقة قصية لا
يعرف عنها شيئا ولا يريد أن يعرف .
أعنى بالشاعر ذلك المتعبّد الذي يدخل هيكل نفسه فيجثو باآيًا
فرحًا نادبًا مهلّلا مصغيًا مناجيًا ثم يخرج وبين شفتيه ولسانه أسماء
وأفعال وحروف واشتقاقات جديدة لأشكال عبادته التي تتجدد في
آل يوم وأنواع انجذابه التي تتغير في آل ليلة فيضيف بعمله هذا
وترًا فضّيًا إلى قيثارة اللغة وعودًا طيبًا إلى موقدها .
أما المقلد فهو الذي يردّد صلاة المصلين وابتهال المبتهلين بدون
إرادة ولا عاطفة فيترك اللغة حيث يجدها والبيان الشخصي حيث لا
بيان ولا شخصية .
أعني بالشاعر ذاك الذي إن أحبّ امرأة انفردت روحه وتنحت عن
سبل البشر لتُلبس أحلامها أجسادًا من بهجة النهار وهول الليل
وولولة العواصف وسكينة الأودية ثم عادت لتضفر من اختباراتها
إآليلا لرأس اللغة وتصوغ من اقتناعها قلادة لعنق اللغة .
أما المقلد فمقلد حتى في حبّه وغزله وتشبيبه ، فإن ذآر وجه
حبيبته وعنقها قال : بدر وغزال . وإن خطر على باله شعرها وقدّها
ولحظها قال : ليل وغصن بان وسهام . وإن شكا قال : جفن ساهر
وفجر بعيد وعذول قريب . وإن شاء أن يأتي بمعجزة بيانية قال :
حبيبتي تستمطر لؤلؤ الدمع من نرجس العيون لتسقي ورد الخدود
وتعضّ على عناب أناملها ببرد أسنانها . يترنم صاحبنا الببغاء بهذه
الأغنية العتيقة وهو لا يدري أنه يسمم ببلادته جسم اللغة ويمتهن
بسخافته وابتذاله شرفها ونبالتها .
قد تكلمت عن المستنبط ونفعه والعقيم وضرره ولم أذآر أولئك
الذين يصرفون حياتهم بوضع القواميس وتأليف المطوّلات وتشكيل
المجامع اللغوية . لم أقل آلمة عن هؤلاء لاعتقادي بأنهم
آالشاطئ بين مدّ اللغة وجزرها وأنّ وظيفتهم لا تتعدّى حدّ
الغربلة . والغربلة وظيفة حسنة ولكن ما عسى يغربل المغربلون إذا
آانت قوّة الابتكار في اللغة لا تزرع غير الزوان ولا تحصد الا الهشيم
ولا تجمع على بيادرها سوى الشوك والقطرب ؟
أقول ثانية إن حياة اللغة وتوحيدها وتعميمها وآل مما له علاقة بها
قد آان وسيكون رهن خيال الشاعر . فهل عندنا شعراء ؟
نعم عندنا شعراء ، وآل شرقي يستطيع أن يكون شاعرًا في حقله
وفي بستانه وأمام نوله وفي معبده وفوق منبره وبجانب مكتبته .
آل شرقي يستطيع أن يعتق نفسه من سجن التقليد والتقاليد
ويخرج إلى نور الشمس فيسير في موآب الحياة . آل شرقي
يستطيع أن يستسلم إلى قوّة الابتكار المختبئة في روحه ، تلك
القوّة الأزلية الأبدية التي تقيم من الحجارة أبناء الله .
أمّا أولئك المنصرفون إلى نظم مواهبهم ونثرها فلهم أقول : ليكن
لكم من مقاصدآم الخصوصية مانع عن اقتفاء أثر المتقدمين ، فخير
لكم وللغة العربية أن تبنوا آوخًا حقيرًا من ذاتكم الوضعيّة من أن
تقيموا صرحًا شاهقًا من ذاتكم المقتبسة . ليكن لكم من عزّة
نفوسكم زاجر عن نظم قصائد المديح والرثاء والتهنئة ، فخير لكم
وللغة العربية أن تموتوا مهملين محتقرين من أن تحرقوا قلوبكم
بخورًا أمام الأنصاب والأصنام . ليكن لكم من حماستكم القومية
دافع إلى تصوبر الحياة الشرقية بما فيها من غرائب وعجائب الفرح ،
فخير لكم وللغة العربية أن تتناولوا أبسط ما يتمثل لكم من الحوادث
في محيطكم وتلبسوها حلة من خيالكم من أن تعرّبوا أجلّ وأجمل
ما آتبه الغربيون .
نسيم الامة العربية ...لغتها لغة الضاد ..انها اللغة العربية ..لغة اهل الجنة ...لغة القران الكريم....فلماذا اصبحت لغتنا لا تواكب لغات العالم في عصرنا هذا ..هل العيب في اللغة ام العيب فينا ...فاللغة هي نفسها لم تتغير منذ ان وجدت ...انما نحن من نتغير ..بالامس لما كان اسلافنا في قمة عطائهم و مجدهم ارتقت لغتهم و اصبحت السائدة و واجبروا العجم على تعلمها ..ليس بقوة السيف كما يتوهم البعض من الحاقدين على لغتنا و امتها امة محمد عليه الصلاة و السلام ..انما بقوة العلم و الابداع ..بقوة الاخلاق الاسلامية ...بقوة فن التعامل ..لقد تفنن اسلافنا في شتى الميادين و ابدعوا في كل المجالات العلمية ..الطب ..و من منا لا يعرف ابن سيناء و ابن رشد..في الاجتماع و من منا لا يعرف ابن خلدون ..في الجبر و من منا لا يعرف الخوارزمي ..في الكمياء و من منا لا يعرف جابر بن حيان ...و القائمة تطول ...و اسال التاريخ يجيبك ماذا فعلت امتي في عصور سبقت ..اسال عقبة بن نافع و من بعده طارق بن زياد اللذي فتح الاندلس ..اسال قصر حمراء يخبرك عني ..و الغريب في كل هذا ان معظم العلماء السابق ذكرهم و مثلهم كثير ليسوا من اصول عربية بل انهم عرب باللسان ..تعلموا العربية و اخذوا العلم بها ..و لم تكن لهم عقدة في ذالك بل انهم كانوا يفتخرون لانهم اتقنوا لغة القران ..و الاغرب من ذالك ..ان امام العربية و شيخ النحاة اللذي اليه ينتهون ..و له كتاب في النحو يسمى "الكتاب" انه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر البصري، المعروف بسيبَوَيه لم يكن عربي الاصل ...و مع ذالك لم تكن له عقدة في تعلم اللغة العربية و تعليمها الى غيره بل انه ابدع فيها و الف الكتب ...اين نحن من هؤلاء
لماذا كانت لغتهم العربية لغة علم يتعلمها غيرهم و لماذا اصبحت في عصرنا مجرد لغة شعر اكل عليها الدهر و شرب ...لماذا اصبحنا نخجل بلغتنا في هذا العصر ..و نتعشق في لغة غيرنا من العجم ...فالاجابة بسيطة فكل العيب فينا و ليس في لغتنا ..لقد اصبحنا في هذا العصر امة مستهلكة عاجزة على الابداع و الانتاج فماتت قلوبنا و مات معها الطموح و الارادة و الابداع ...فماتت لغتنا ..والله انه امر مخزي كيف نقابل اسلافنا و نحن على هذا الحال ..نزداد سوءا على سوء ..ان الامر بايدنا ... "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" و مهما تكلمت عن حال لغتنا و مستقبلها ..فلن اجد مقالا اصدق تعبيرا كما جاء في مقالة الاديب جبران خليل جبران ..اللذي ابدع كعادته و اعطانا حلولا كي ننهض بلغتنا و نعيدها مكانتها الاولى ..فاللغة العربية رائدة و لن تكون الا كذالك
احبتي في الله اترككم مع هذا المقال الرائع لجبران خليل جبران و لن تندموا ابدا
مستقبل اللغة العربية
بقلم جبران خليل جبران
-1 ما هو مستقبل اللغة العربية ؟
إنّما اللغة مظهر من مظاهر الأبتكار في مجموع الأمّة ، أو ذاتها
العامّة ، فإذا هجعت قوّة الابتكار توقفت اللغة عن مسيرها ، وفي
الوقوف التقهقر وفي التقهقر الموت والاندثار .
إذًا فمستقبل اللغة العربية يتوقف على مستقبل الفكر المبدع
الكائن - أو غير الكائن - في مجموع الأمم التي تتكلم اللغة
العربية . فإن آان ذلك الفكر موجودًا آان مستقبل اللغة عظيمًا
آماضيها ، وإن آان غير موجود فمستقبلها سيكون آحاضر
شقيقتيها السريانية والعبرانية .
وما هذه القوّة التي ندعوها بقوّة الابتكار ؟
هي في الأمّة عزم دافع إلى الأمام . هي في قلبها جوع وعطش
وشوق إلى غير المعروف ، وفي روحها سلسلة أحلام تسعى إلى
تحقيقها ليلا ونهارًا ولكنّها لا تحقّق حلقة من أحد طرفيها إلا أضافت
الحياة حلقة جديدة في الطرف الآخر . هي في الأفراد النبوغ وفي
الجماعة الحماسة ، وما النبوغ في الأفراد سوى المقدرة على
وضع ميول الجماعة الخفية في أشكال ظاهرة محسوسة .
ففي الجاهلية آان الشاعر يتأهّب لأنّ العرب آانوا في حالة
التأهّب ، وآان ينمو ويتمدّد أيّام المخضرمين لأنّ العرب آانوا في
حالة النموّ والتمدّد ، وآان يتشعّب أيّام المولدين لأنّ الأمّة
الإسلامية آانت في حالة التشعّب . وظل الشاعر يتدرّج ويتصاعد
ويتلوّن فيظهر آنًا آفيلسوف ، وآونة آطبيب ، وأخرى آفلكي ، حتى
راود النعاس قوّة الابتكار في اللغة العربية فنامت وبنومها تحوّل
الشعراء إلى ناظمين والفلاسفة إلى آلاميين والأطبّاء إلى دجّالين
والفلكيون إلى منجّمين .
إذا صحّ ما تقدّم آان مستقبل اللغة العربية رهن قوّة الابتكار في
مجموع الأمم التي تتكلمها ، فإن آان لتلك الأمم ذات خاصّة أو
وحدة معنويّة وآانت قوّة الابتكار في تلك الذات قد استيقظت بعد
نومها الطويل آان مستقبل اللغة العربية عظيمًا آماضيها ، وإلا فلا .
-2 وما عسى أن يكون تأثير التمدين الأوروبّي والروح الغربية فيها ؟
إنما التأثير شكل من الطعام تتناوله اللغة من خارجها فتمضغه
وتبتلعه وتحوّل الصالح منه إلى آيانها الحيّ آما تحوّل الشجرة النور
والهواء وعناصر التراب إلى أفنان فأوراق فأزهار فأثمار . ولكن إذا
آانت اللغة بدون أضراس تقضم ولا معدة تهضم فالطعام يذهب
سُدًى بل ينقلب سمًّا قاتلا . وآم من شجرة تحتال على الحياة
وهي في الظل فإذا ما نُقلت إلى نور الشمس ذبُلت وماتت . وقد
جاء : من له يُعطى ويُزاد ومن ليس له يؤخذ منه .
وأمّا الروح الغربيّة فهي دور من أدوار الإنسان وفصل من فصول
حياته . وحياة الإنسان موآب هائل يسير دائمًا إلى الأمام ، ومن
ذلك الغبار الذهبي المتصاعد من جوانب طريقه تتكوّن اللغات
والحكومات والمذاهب . فالأمم التي تسير في مقدمة هذا الموآب
هي المبتكرة ، والمبتكر مؤثر ؛ والأمم التي تمشي في مؤخرته
هي المقلدة ، والمقلد يتأثر ، فلمّا آان الشرقيون سابقين
والغربيون لاحقين آان لمدنيتنا التأثير العظيم في لغاتهم ، وها قد
أصبحوا هم السابقين وأمسينا نحن اللاحقين فصارت مدنيتهم
بحكم الطبع ذات تأثير عظيم في لغتنا وأفكارنا وأخلاقنا .
بيد أن الغربيين آانوا في الماضي يتناولون ما نطبخه فيمضغونه
ويبتلعونه محوّلين الصالح منه إلى آيانهم الغربي ، أما الشرقيون
في الوقت الحاضر فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه ولكنه لا
يتحوّل إلى آيانهم بل يحوّلهم إلى شبه غربيين ، وهي حالة
أخشاها وأتبرّم منها لأنها تبين لي الشرق تارة آعجوز فقد أضراسه
وطورًا آطفل بدون أضراس !
إنّ روح الغرب صديق وعدوّ لنا . صديق إذا تمكنّا منه وعدوّ إذا تمكّن
منا . صديق إذا فتحنا له قلوبنا وعدوّ إذا وهبنا له قلوبنا . صديق إذا
أخذنا منه ما يوافقنا وعدوّ إذا وضعنا نفوسنا في الحالة التي
توافقه .
-3 وما يكون تأثير التطوّر السياسي الحاضر في الأقطار العربية ؟
قد أجمع الكتاب والمفكرون في الغرب والشرق على أن الأقطار
العربية في حالة التشويش السياسي والإداري والنفسي . ولقد
اتفق أآثرهم على أن التشويش مجلبة الخراب والاضمحلال .
أمّا أنا فأسأل : هل هو تشويش أم ملل ؟
إن آان مللا فالملل نهاية آل أمّة وخاتمة آل شعب . الملل هو
الاحتضار في صورة النعاس ، والموت في شكل النوم .
وإن آان بالحقيقة تشويشًا فالتشويش في شرعي ينفع دائمًا لأنه
يُبيّن ما آان خافيًا في روح الأمّة ويبدّل نشوتها بالصحو وغيبوبتها
باليقظة ونظير عاصفة تهزّ بعزمها الأشجار لا لتقلعها بل لتكسر
أغصانها اليابسة وتبعثر أوراقها الصفراء . وإذا ما ظهر التشويش في
أمّة لم تزل على شيء من الفطرة فهو أوضح دليل على وجود قوّة
الابتكار في أفرادها والاستعداد في مجموعها . إنّما السديم أوّل
آلمة من آتاب الحياة وليس بآخر آلمة منها ، وما السديم سوى
حياة مشوّشة .
إذًا فتأثير التطوّر السياسي سيحوّل ما في الأقطار العربية من
التشويش إلى نظام ، وما في داخلها من الغموض والإشكال إلى
ترتيب وألفة ، ولكنه لا ولن يبدّل مللها بالوجد وضجرها بالحماسة .
إنّ الخزّاف يستطيع أن يصنع من الطين جرّة للخمر أو للخل ولكنه لا
يقدر أن يصنع شيئا من الرمل والحصى .
-4 هل يعُمّ انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير العالية
وتُعلّم بها جميع العلوم ؟
لا يعُمّ انتشار اللغة في المدارس العالية وغير العالية حتى تصبح
تلك المدارس ذات صبغة وطنية مجردة ولن تُعلم بها جميع العلوم
حتى تنتقل المدارس من أيدي الجمعيات الخيرية واللجان الطائفية
والبعثات الدينية إلى أيدي الحكومات المحلية .
ففي سوريا مثلا آان التعليم يأتينا من الغرب بشكل الصدقة ، وقد
آنا ولم نزل نلتهم خبز الصدقة لأننا جياع متضوّرون ، ولقد أحيانا
ذلك الخبز ، ولما أحيانا أماتنا . أحيانا لأنه أيقظ جميع مدارآنا ونبه
عقولنا قليلا ، وأماتنا لأنه فرق آلمتنا وأضعف وحدتنا وقطع روابطنا
وأبعد ما بين طوائفنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات
صغيرة مختلفة الأذواق متضاربة المشارب آل مستعمرة منها تشد
في حبل إحدى الأمم الغربية وترفع لواءها وتترنم بمحاسنها
وأمجادها . فالشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة
أميرآية قد تحوّل بالطبع إلى معتمد أميرآي ، والشاب الذي تجرع
رشفة من العلم في مدرسة يسوعية صار سفيرًا فرنسيًا ،
والشاب الذي لبس قميصًا من نسيج مدرسة روسية أصبح ممثلا
لروسيا ... إلى آخر ما هناك من المدارس وما تخرجه في آل عام
من الممثلين والمعتمدين والسفراء . وأعظم دليل على ما تقدم
اختلاف الآراء وتباين المنازع في الوقت الحاضر في مستقبل سوريا
السياسي . فالذين درسوا بعض العلوم باللغة الانكلبزبة يريدون
أميرآا أو انكلترا وصيّة على بلادهم ، والذين درسوها باللغة
الفرنسية يطلبون فرنسا أن تتولى أمرهم ؛ والذين لم يدرسوا بهذه
اللغة أو بتلك لا يريدون هذه الدولة ولا تلك بل يتبعون سياسة
أدنى إلى معارفهم وأقرب إلى مدارآهم .
وقد يكون ميلنا السياسيّ إلى الأمة التي نتعلم على نفقتها دليلا
على عاطفة عرفان الجميل في نفوس الشرقيين ، ولكن ما هذه
العاطفة التي تبني حجرًا من جهة واحدة وتهدم جدارًا من الجهة
الأخرى ؟ ما هذه العاطفة التي تستنبت زهرة وتقتلع غابة ؟ ما
هذه العاطفة التي تحيينا يومًا وتميتنا دهرًا ؟
إن المحسنين الحقيقيين وأصحاب الأريحية في الغرب لم يضعوا
الشوك والحسك في الخبز الذي بعثوا به إلينا ، فهم بالطبع قد
حاولوا نفعنا لا الضرر بنا . ولكن آيف تولد ذلك الشوك ومن أين أتى
ذلك الحسك ؟ هذا بحث آخر أترآه إلى فرصة أخرى .
نعم سوف يعمّ انتشار اللغة العربية في المدارس العالية وغير
العالية وتعلم بها جميع العلوم فتتوحد ميولنا السياسية وتتبلور
منازعنا القومية لأن في المدرسة تتوحّد الميول وفي المدرسة
تتجوهر المنازع ، ولكن لا يتم هذا حتى يصير بإمكاننا تعليم الناشئة
على نفقة الأمّة . لا يتم هذا حتى يصير الواحد منا ابنًا لوطن واحد
بدلا من وطنين متناقضين أحدهما لجسده والآخر لروحه . لا يتم
هذا حتى نستبدل خبز الصدقة بخبز معجون في بيتنا ، لأن
المتسوّل المحتاج لا يستطيع أن يشترط على المتصدق الأريحيّ .
ومن يضع نفسه في منزلة الموهوب لا يستطيع معارضة الواهب ،
فالموهوب مسيّر دائمًا والواهب مخيّر أبدًا .
-5 وهل تتغلب اللغة العربية الفصحى على اللهجات العامبة
المختلفة وتوحّدها ؟
إنّ اللهجات العامية تتحوّر وتتهذب ويُدلّك الخشن فيها فَيَلين ولكنها
لا ولن تغلب - ويجب ألا تغلب - لأنها مصدر ما ندعوه فصيحًا من
الكلام ومنبت ما نعدّه بليغًا من البيان .
إن اللغات تتبع مثل آل شيء آخر سُنّة بقاء الأنسب ، وفي
اللهجات العامية الشيء الكثير من الأنسب الذي سيبقى لأنه
أقرب إلى فكرة الأمة وأدنى إلى مرامي ذاتها العامة . قلت إنه
سيبقى وأعني بذلك أنه سيلتحم بجسم اللغة ويصير جزءًا من
مجموعها .
لكل لغة من لغات الغرب لهجات عامية ، ولتلك اللهجات مظاهر
أدبية
وفنية لا تخلو من الجميل المرغوب والجديد المبتكر ، بل في أوروبا
وأميرآا طائفة من الشعراء الموهوبين الذين تمكنوا من التوفيق بين
العاميّ والفصيح في قصائدهم وموشّحاتهم فجاءت بليغة ومؤثرة .
وعندي أنّ في الموّال والزجل و " العتابا " و" المعنيّ " من الكنايات
المستجدة ، والاستعارات المستملحة والتعابير الرشيقة
المستنبطة ما لو وضعناه بجانب تلك القصائد المنظومة بلغة
فصيحة ، والتي تملأ جرائدنا ومجلاتنا ، لبانت آباقة من الرياحين
بقرب رابية من الحطب ، أو آسرب من الصبايا الراقصات المترنمات
قبالة مجموعة من الجثث المحنطة .
لقد آانت اللغة الإيطالية الحديثة لهجة عامية في القرون
المتوسطة وآان الخاصّة يدعونها بلغة " الهمج " ، ولكن لما نظم
بها دانتي وبترارك وآامونس وفرانسيس داسيزي قصائدهم
وموشّحاتهم الخالدة أصبحت تلك اللهجة لغة إيطاليا الفصحى
وصارت اللاتينية بعد ذلك هيكلا يسير ولكن في نعش على أآتاف
الرجعيين ... و ليست اللهجات العامية في مصر وسوريا والعراق
أبعد عن لغة المعرّي والمتنبّي من لهجة " الهمج " الإيطالية عن
لغة أوفيدي وفرجيل . فإذا ما ظهر في الشرق الأدنى عظيم ووضع
آتابًا عظيمًا في إحدى تلك اللهجات تحوّلت هذه إلى لغة فصحى .
بيد أني أستبعد حدوث ذلك في الأقطار العربية لأن الشرقيين أشد
ميلا إلى الماضي منهم إلى الحاضر أو المستقبل ، فهم
المحافظون ، على معرفة منهم أو على غير معرفة ، فإن قام آبير
بينهم لزم في إظهار مواهبه السبل البيانية التي سار عليها
الأقدمون ، وما سُبل الأقدمين سوى أقصر الطرقات بين مهد الفكر
ولحده .
-6 وما هي خير الوسائل لإحياء اللغة العربية ؟
إنّ خير الوسائل ، بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي في قلب
الشاعر وعلى شفتيه وبين أصابعه ، فالشاعر هو الوسيط بين قوّة
الابتكار والبشر ، وهو السلك الذي ينقل ما يُحدثه عالم النفس إلى
عالم البحث ، وما يقرره عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين .
الشاعر أبو اللغة وأمّها ، تسير حيثما يسير وتربض أينما يربض ، و
إذا
ما قضى جلست على قبره باآية منتحبة حتى يمرّ بها شاعر آخر
ويأخذ بيدها . وإذا آان الشاعر أبا اللغة وأمّها فالمقلد ناسج آفنها
وحافر قبرها .
أعني بالشاعر آل مخترع آبيرًا آان أو صغيرًا ، وآل مكتشف قويًا
آان أو ضعيفًا ، وآل مختلق عظيمًا آان أو حقيرًا ، وآل محبّ للحياة
المجردة إمامًا آان أو صعلوآا ، وآل من يقف متهيّبًا أمام الأيام
والليالي فيلسوفًا آان أو ناطورًا للكروم .
أما المقلد فهو الذي لا يكتشف شيئًا ولا يختلق أمرًا بل يستمدّ
حياته النفسية من معاصريه ويصنع أثوابه المعنويّة من رقع يجزها
من أثواب من تقدّمه .
أعني بالشاعر ذلك الزارع الذي يفلح أرضه بمحراث يختلف ولو قليلا
عن المحراث الذي ورثه عن أبيه فيجيء بعده من يدعو المحراث
الجديد باسم جديد ، وذلك البستاني الذى يستنبت بين الزهرة
الصفراء والزهرة الحمراء زهرة ثالثة برتقالية اللون فيأتي بعده من
يدعو الزهرة الجديدة باسم جديد ، وذلك الحائك ، الذي ينسج على
نوله نسيجًا ذا رسوم وخطوط تختلف عن الأقمشة التي يصنعها
جيرانه الحائكون فيقوم من يدعو نسيجه هذا باسم جديد .
أعنى بالشاعر الملاح الذي يرفع لسفينة ذات شراعين شراعًا
ثالثا ، والبنّاء الذي يبني بيتا ذا بابين ونافذتين بين بيوت آلها ذات
باب واحد ونافذة واحدة ، والصباغ الذي يمزج الألوان التي لم
يمزجها أحد قبله فيستخرج لونًا جديدًا ، فيأتي بعد الملاح والبناء
والصبّاغ من يدعو ثمار أعمالهم بأسماء جديدة فيضيف بذلك شراعًا
إلى سفينة اللغة ونافذة إلى بيت اللغة ولونًا الى ثوب اللغة .
أما المقلد فهو ذاك الذي يسير من مكان إلى مكان على الطريق
التي سار عليها ألف قافلة وقافلة ولا يحيد عنها مخافة أن يتيه
ويضيع ، ذاك الذي يتبع بمعيشته وآسب رزقه ومأآله ومشربه
وملبسه تلك السبل المطروقة التي مشى عليها ألف جيل وجيل
فتظل حياته آرجع الصدى ويبقى آيانه آظل ضئيل لحقيقة قصية لا
يعرف عنها شيئا ولا يريد أن يعرف .
أعنى بالشاعر ذلك المتعبّد الذي يدخل هيكل نفسه فيجثو باآيًا
فرحًا نادبًا مهلّلا مصغيًا مناجيًا ثم يخرج وبين شفتيه ولسانه أسماء
وأفعال وحروف واشتقاقات جديدة لأشكال عبادته التي تتجدد في
آل يوم وأنواع انجذابه التي تتغير في آل ليلة فيضيف بعمله هذا
وترًا فضّيًا إلى قيثارة اللغة وعودًا طيبًا إلى موقدها .
أما المقلد فهو الذي يردّد صلاة المصلين وابتهال المبتهلين بدون
إرادة ولا عاطفة فيترك اللغة حيث يجدها والبيان الشخصي حيث لا
بيان ولا شخصية .
أعني بالشاعر ذاك الذي إن أحبّ امرأة انفردت روحه وتنحت عن
سبل البشر لتُلبس أحلامها أجسادًا من بهجة النهار وهول الليل
وولولة العواصف وسكينة الأودية ثم عادت لتضفر من اختباراتها
إآليلا لرأس اللغة وتصوغ من اقتناعها قلادة لعنق اللغة .
أما المقلد فمقلد حتى في حبّه وغزله وتشبيبه ، فإن ذآر وجه
حبيبته وعنقها قال : بدر وغزال . وإن خطر على باله شعرها وقدّها
ولحظها قال : ليل وغصن بان وسهام . وإن شكا قال : جفن ساهر
وفجر بعيد وعذول قريب . وإن شاء أن يأتي بمعجزة بيانية قال :
حبيبتي تستمطر لؤلؤ الدمع من نرجس العيون لتسقي ورد الخدود
وتعضّ على عناب أناملها ببرد أسنانها . يترنم صاحبنا الببغاء بهذه
الأغنية العتيقة وهو لا يدري أنه يسمم ببلادته جسم اللغة ويمتهن
بسخافته وابتذاله شرفها ونبالتها .
قد تكلمت عن المستنبط ونفعه والعقيم وضرره ولم أذآر أولئك
الذين يصرفون حياتهم بوضع القواميس وتأليف المطوّلات وتشكيل
المجامع اللغوية . لم أقل آلمة عن هؤلاء لاعتقادي بأنهم
آالشاطئ بين مدّ اللغة وجزرها وأنّ وظيفتهم لا تتعدّى حدّ
الغربلة . والغربلة وظيفة حسنة ولكن ما عسى يغربل المغربلون إذا
آانت قوّة الابتكار في اللغة لا تزرع غير الزوان ولا تحصد الا الهشيم
ولا تجمع على بيادرها سوى الشوك والقطرب ؟
أقول ثانية إن حياة اللغة وتوحيدها وتعميمها وآل مما له علاقة بها
قد آان وسيكون رهن خيال الشاعر . فهل عندنا شعراء ؟
نعم عندنا شعراء ، وآل شرقي يستطيع أن يكون شاعرًا في حقله
وفي بستانه وأمام نوله وفي معبده وفوق منبره وبجانب مكتبته .
آل شرقي يستطيع أن يعتق نفسه من سجن التقليد والتقاليد
ويخرج إلى نور الشمس فيسير في موآب الحياة . آل شرقي
يستطيع أن يستسلم إلى قوّة الابتكار المختبئة في روحه ، تلك
القوّة الأزلية الأبدية التي تقيم من الحجارة أبناء الله .
أمّا أولئك المنصرفون إلى نظم مواهبهم ونثرها فلهم أقول : ليكن
لكم من مقاصدآم الخصوصية مانع عن اقتفاء أثر المتقدمين ، فخير
لكم وللغة العربية أن تبنوا آوخًا حقيرًا من ذاتكم الوضعيّة من أن
تقيموا صرحًا شاهقًا من ذاتكم المقتبسة . ليكن لكم من عزّة
نفوسكم زاجر عن نظم قصائد المديح والرثاء والتهنئة ، فخير لكم
وللغة العربية أن تموتوا مهملين محتقرين من أن تحرقوا قلوبكم
بخورًا أمام الأنصاب والأصنام . ليكن لكم من حماستكم القومية
دافع إلى تصوبر الحياة الشرقية بما فيها من غرائب وعجائب الفرح ،
فخير لكم وللغة العربية أن تتناولوا أبسط ما يتمثل لكم من الحوادث
في محيطكم وتلبسوها حلة من خيالكم من أن تعرّبوا أجلّ وأجمل
ما آتبه الغربيون .