لا تزال القهوة تثير الاهتمام العلمي في الأوساط الطبية. ومن أحدث أخبارها الطبية ما طرحه الباحثون الكنديون من جامعة بريتش كولومبيا في منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي حول تأثير درجة تحميص القهوة على توفر المواد المضادة للأكسدة في مشروب القهوة. كانت النظرة الطبية للقهوة في البداية تتبنى ادعاءات «خاطئة» في تصنيفها كأحد عوامل «خطورة» الإصابة بأمراض القلب وتفاقم الحالة الصحية لدى مرضى القلب، وانتشرت من أجل ذلك، نصائح «واهمة» بضرورة تجنب تناولها من قبل مرضى القلب ومن قبل عموم الناس إذا ما أردوا أن تكون قلوبهم سليمة. ولكن النظرة الطبية نحو القهوة تغيرت في خلال العقدين الماضيين بعد إجراء دراسات طبية لم تلحظ أضرارا واضحة على صحة القلب وشرايينه أو التسبب بالإصابة بأمراضها.
وتطورت تلك النظرة الحديثة، المبنية على أدلة علمية ودراسات طبية واقعية، نحو البحث عن أفضل الوسائل للاستفادة الصحية من شرب القهوة. وهو ما يتطلب إلماما سريعا بالجوانب المتعلقة بنوع حبوب القهوة، وكيفية تحميصها، وكيفية إعدادها، وكمية تناولها، وتأثيرات إزالة مادة الكافيين عنها، وغيره مما سيمر بنا في العرض.
إن حبوب القهوة ثمار نوع من الأشجار البرية بالأصل، والدائمة الخضرة. وهناك أكثر من 25 نوعا من أشجار القهوة البرية، يستخدم نوعان منها فقط عالميا في إنتاج القهوة، وهما النوع «العربي» Arabica coffee، ويشكل نحو 70 في المائة من الإنتاج العالمي. والنوع الثاني يسمى «روبيستا» robusta coffee، أو النوع الخشن بمصطلح علم النبات، ويشكل نحو 30 في المائة من الإنتاج العالمي.
وهناك فروق بين النوعين، تهمنا من الناحية الطبية، أهمها أن النوع «العربي» أقل احتواء على مادة الكافيين Caffeine، بدرجة قد تصل في بعض المحاصيل إلى 50 في المائة، مقارنة بنوع «روبيستا». وتحديدا، يحتوي النوع «العربي» على الكافيين بنسبة 1.2 في المائة، بينما تبلغ النسبة 2.2 في المائة في نوع «روبيستا». والاسم العلمي لمادة الكافيين هو (1/3/7 ترايميثايلزانثين) (1،3،7 trimethylxanthine)، وهي مادة شبه قلوية alkaloid، توجد في ثمار أكثر من ستين نوعا من النباتات. وهي بالأصل مادة مضادة للحشرات وللجراثيم. وهناك من يعلل الأمر بالنسبة لاحتواء أنواع القهوة عليها، بأن النوع «العربي» من القهوة ينمو في المرتفعات ويتطلب كمية أقل من مياه الري وثماره أقل رطوبة، فإنه أقل عرضة للإصابة بالآفات، وب أقل احتياجا لوجود المادة التي يتمثل عملها في القضاء على الحشرات والجراثيم، أي مادة الكافيين، بخلاف نوع «روبيستا» الذي ينمو في مناطق أكثر انخفاضا وأكثر رطوبة ويحتاج إلى كميات أعلى من مياه الري.
ولكن الخطوة الأهم تظل في التعامل الإنتاجي مع ثمار وحبوب القهوة، هي عملية التحميص (roasting process) ذات التأثيرات المهمة على مكونات حبوب القهوة. وهي معالجة إنتاجية يتم فيها تغيير الخصائص الكيميائية والفيزيائية الطبيعية لحبوب القهوة الخضراء، من خلال الاستعانة بالحرارة لإحداث مرحلتين من التحلل الحراري داخلها. وب تظهر النكهة المميزة للحبوب المحمصة نتيجة لانتفاخ حجم الحبة وتغيير لونها وطعمها ورائحتها وكثافتها ودرجة حموضتها ومحتواها من الكافيين وسهولة استفادة الجسم مما تحتوي عليه من المواد المضادة للأكسدة.
ووفق أحدث البحوث، فإن حبوب القهوة تحتوي على ما بين 1000 و1200 مركب كيميائي ذات خصائص في اللون والطعم والنكهة، وقابلة للتفاعل مع بعضها خلال عملية التحميص. ولكن ما يهم هو تأثيرات عملية التحميص على محتوى حبوب القهوة من الماء ومادة الكافيين والمواد المضادة للأكسدة ودرجة الحموضة والسكريات والبروتينات والدهون.
* الكافيين والتحميص
* الكافيين مادة تم اكتشافها لأول مرة في القهوة نحو عام 1810. وتشير الأدلة العلمية بوضوح إلى حقيقة مفادها أنه كلما زاد تحميص حبوب القهوة، نقصت كمية الكافيين وكمية الماء فيها، أي إن حبوب القهوة البنية الفاتحة المستخدمة في إعداد «القهوة العربية المرة»، تحتوي على كمية ماء وكمية كافيين أعلى من تلك الحبوب البنية الغامقة. ولكن بالمقابل، ثمة اعتقادا شائعا مفاده أن القهوة البنية الغامقة ذات الطعم الأكثر مرارة، والمستخدمة في إعداد «القهوة التركية» أو «الإسبريسو» أو «القهوة الأميركية»، تحتوي كمية كافيين أعلى من تلك الحبوب الشهباء المستخدمة في إعداد «القهوة العربية المرة».
والبعض يعتقد هذا، بسبب أن مرارة طعم القهوة الغامقة تنجم عن طعم مادة الكافين المر، بينما تؤكد الدراسات العلمية أن الكافيين المر مسؤول فقط عن 10 في المائة من مكونات مرارة طعم مسحوق القهوة المحمصة.
وهنا نقطة علمية دقيقة علينا ملاحظتها وتأملها لنفهمها بوضوح. وهي أنه بلا شك لو أننا أخذنا كميتين من حبوب القهوة الخضراء بوزن 100 غرام، ثم حمصنا الكمية الأولى إلى درجة البني الفاتح جدا، وحمصنا الكمية الأخرى إلى درجة البني الغامق، فإن كمية الكافيين في الحبوب الفاتحة أعلى من تلك الموجودة في الحبوب الغامقة. ولو أعددنا قهوة «عربية مرة» من كامل الكمية الأولى، و«قهوة أميركية» من كامل الكمية الثانية، في مقدار نصف لتر من الماء، فإن كمية الكافيين في «القهوة العربية المرة» أعلى من تلك التي في «القهوة الأميركية».
ولكننا لو أخذنا مباشرة 100 غرام من مسحوق القهوة البنية الفاتحة لإعداد قهوة «عربية مرة»، و100 غرام من مسحوق القهوة البنية الغامقة لإعداد «قهوة أميركية»، في نصف لتر من الماء، فإن كمية الكافيين تكون أعلى في القهوة الأميركية، مقارنة بالقهوة «العربية المرة». والسبب ببساطة أن حبة القهوة كلما زاد تحميصها فقدت المزيد من الماء ونقص وزنها وزاد حجمها. ولذا 100 غرام من مسحوق القهوة البنية الفاتحة يحتوي على كمية من الماء أعلى بالمقارنة مع 100 غرام من مسحوق القهوة البنية الغامقة. وب فإن كمية المواد الكيميائية الموجودة في حبوب القهوة، هي أقل في الحبوب التي لا تزال تحتوي على الماء، بالمقارنة مع الحبوب الأقل احتواء على الماء.
وحتى بالنسبة لنوع واحد من القهوة الغامقة اللون مثلا، فإن هناك عاملا مهما آخر يجب أخذه في الحسبان، وهو حجم قطع مسحوق القهوة. ولو أخذنا حجم 5 سم مكعب من قهوة مطحونة بدرجة خشنة كالتي تستخدم لإعداد «القهوة الأميركية»، ونفس الحجم من قهوة مطحونة بدرجة ناعمة كالتي تستخدم لإعداد قهوة «إسبريسو»، فإن وزن الكمية المطحونة بدرجة ناعمة أعلى من وزن الكمية المطحونة بدرجة خشنة. وب تكون كمية الكافيين أعلى في تلك المطحونة بدرجة ناعمة، على الرغم من أنها من نفس درجة غمق اللون والتحميص وحبوبها غير المطحونة تحتوي على نفس الكمية من الكافيين.
أي أن كمية الكافيين في مشروب القهوة تتأثر بدرجة التحميص، ووزن مسحوق القهوة المستخدم في إعدادها، ودرجة خشونة التقطيع أثناء الطحن. وهناك عامل رابع يتعلق بطريقة الإعداد، أي إما بغلي الماء مع مسحوق القهوة، أو الترشيح باستخدام فلتر (راشح) الورق في «القهوة الأميركية» أو فلتر الشبكة المعدنية في قهوة «إسبريسو»، وغير ذلك.
* التحميص ومضادات الأكسدة
* وكانت مجلة «فود ريسيرش إنترناشونال» Food Research International المعنية ببحوث علم الأطعمة، قد نشرت في 12 يناير الماضي عزمها على نشر دراسة الباحثين من جامعة بريتش كولومبيا حول تأثير تحميص حبوب القهوة على محتواها من المواد المضادة للأكسدة (Antioxidants). وأكدت المجلة أنها ستنشر كامل الدراسة في أحد أعدادها القادمة، إما عدد فبراير (شباط) وإما مارس (آذار).
وقام الباحثون الكنديون في دراستهم هذه بتحديد تفاصيل العمليات الكيميائية المعقدة التي تحصل خلال عملية تحميص حبوب القهوة، مما جعلهم يؤكدون أن التحميص يزيد من الفوائد الصحية للقهوة، عبر زيادة توفير المواد المضادة للأكسدة في مشروبها خلال عملية تفاعلات «ميللارد» التي تحصل في القهوة خلال التحميص.
وكان العالم الفرنسي لويس ميللارد قد اكتشف لأول مرة تفاعلات «ميللارد» في بدايات القرن العشرين أثناء دراسته لتحميص شرائح الخبز وشواء اللحوم، ونوعية التفاعلات الكيميائية التي تحصل في السكريات والبروتينات عند التعرض لحرارة الطهي.
والمواد المضادة للأكسدة هي أحد خيرات الأطعمة، وتعمل في الجسم كمواد تُعطّل تأثير الجذور الحرة (free radicals). ومعلوم أن الجذور الحرة تتسبب بالكثير من التأثيرات الصحية الضارة، مثل تثبيت تراكم الكولسترول في جدران شرايين القلب والدماغ، ما يؤدي إلى ظهور الجلطة القلبية والذبحة الصدرية والسكتة الدماغية. كما أنها مواد مرتبطة بنشوء اضطرابات الخلية الحية في أعضاء مختلفة في الجسم، ما يؤدي إلى ظهور الإصابات بالأمراض السرطانية، ولها كذلك دور في تدني قدرة الجسم على مقاومة تأثيرات العوامل الكيميائية والفيزيائية التي تتسبب بالشيخوخة، وغيرها من التأثيرات الصحية الضارة.
ووفق ما ذكره الباحثون في دراستهم الحديثة، كان الاعتقاد أن توفر المواد للأكسدة في القهوة المحمصة له علاقة بالكافيين أو أحماض كلوروجين الموجودة في الحبوب الخضراء للقهوة، ولكنهم أثبتوا أن توفرها له علاقة مباشرة بتفاعلات «ميللارد». ولكن لا يزال من غير الواضح: هل كلما زاد التحميص، زادت كمية المواد المضادة للأكسدة؟ وفي مثال مشابه، كانت مجلة صحتك لـ«الشرق الأوسط» قد نشرت في عدد 8 يونيو (حزيران) 2008 دراسات الباحثين حول إثبات أن كمية المواد المضادة للأكسدة في قشرة الخبز المحمصة، أو «المقمرة»، هي أعلى مما هو متوفر في اللب الأبيض بداخلها.
وأحماض كلوروجين (chlorogenic acids (CQA من المواد المضادة للأكسدة الموجودة في القهوة بنسبة تفوق أي منتج نباتي آخر، واكتشفت في القهوة عام 1932. وتشكل نحو 10 في المائة من مكونات نوع «روبيستا»، وأقل بكثير في النوع «العربي» منها. وبالإضافة لكونها مادة مضادة للأكسدة، يعتقد أنها ذات قدرة على مقاومة الحشرات والميكروبات. ولأحماض كلوروجين خصائص تعطي تأثيرا قابضا غير محبب في الفم (Astringent) عبر عملها على تخثر وتراكم البروتينات الموجودة عادة بحالة سائلة في اللعاب. أي أسوة بمواد تانيين (tannins) الموجودة في قشور الموز وغيره. وخلال عملية التحميص يتلاشى أكثر من 90 في المائة منها، ويتحول إلى مواد حمض الكافيك وحمض الكوينيك، وهما مادتان تعطلان المفعول القابض في الفم. ولذا كلما زاد تحميص القهوة، قل التأثير القابض في الفم نتيجة لنقص أحماض كلوروجين وزيادة حمض الكافيك (caffeic acid) وحمض الكوينيك quinic acid. وب يصف «الذواقة» تلك القهوة بأنها أقل حدة وأقل حموضة وأكثر إحساسا بطعمها في الفم، أي أنها ذات «نكهة غنية».
* القهوة التركية
* الزيوت النباتية الطبيعية الموجودة في حبوب القهوة تتركز بشكل غالب في جزء «السويداء» أو النواة (endosperm) الصغير الحجم داخل الحبة. والقليل منها يوجد في لب حبوب القهوة، الذي يشكل الحجم الرئيسي لتركيبها.
وتذكر المصادر العلمية أن النوع «العربي» من حبوب القهوة يحتوي على كمية أعلى من الزيوت النباتية، مقارنة بنوع «روبيستا»، بنسبة 60 في المائة. وتحديدا يحتوي 100 غرام من قهوة النوع «العربي» على نحو 18 غراما من الزيوت النباتية. وعلى الرغم من عدم تأثر زيوت القهوة بعملية التحميص، فإن تلك الزيوت مهمة جدا لـ«الذواقة»، والسبب أن غالبية المواد المهمة في «أروما» aroma نكهة القهوة تحتاج أن تذوب في الدهون oil solubl كي تظهر نكهتها في مشروب القهوة.
والإشكالية بين القهوة والكولسترول تمت ملاحظتها في الدراسات الطبية عند إعداد القهوة المغلية بالطريقة الاسكندنافية Scandinavian boiled coffee أو التركية Turkish/Greek coffee، أي التي يتم فيها غلي مسحوق القهوة مع الماء. ولكنها لم تلاحظ في طريقة إعداد القهوة عبر الترشيح بالفلتر، أي «إسبريسو» أو «القهوة الأميركية». والسبب أن غلي الماء مع مطحون القهوة يؤدي إلى ظهور مواد «كافيستول» cafestol و«كاهويل» kahweo و«ديتيربين» diterpenes.
وكان الباحثون من جامعة أوميو بالسويد قد نشروا في عدد يونيو 2010 لمجلة «كانسر كوزز آند كونترول» Cancer Causes & Control، المعنية بأسباب السرطان وضبطه، نتائج دراستهم حول تأثيرات تناول القهوة الاسكندنافية على الأورام السرطانية، بالمقارنة مع القهوة الفرنسية المعدة بالضغط French press. ووفق ما تم التعليق في حينه على تلك الدراسة، هو أنها الأولى عالميا في المقارنة ما بين نوعي إعداد القهوة. وشملت أكثر من 65 ألف شخص من الجنسين. وذكروا أن تلك النوعية من القهوة المغلية boiled coffee، والشبيهة بالقهوة التركية، تحتوي إلى 80 ضعفا في كمية الأحماض الدهنية fatty acids، مقارنة بالقهوة المُعدة باستخدام الفلتر filtered coffee، وأن هذا هو الفرق الرئيسي بين محتوى النوعين من القهوة. وقدم الباحثون نتائج مفادها أن تناول القهوة بطريقة الغلي يقلل من إصابات النساء بسرطان الثدي، ويرفع من إصابات الرجال بسرطان البنكرياس وسرطان الرئة.
ولكن لا يزال موضوع القهوة التركية وتأثيراتها الصحية محل بحث ودراسة في الأوساط الطبية. ومما لا يزال يحتاج إلى دراسات طبية جادة، التأثيرات الصحية للقهوة العربية المرة التي تعد أيضا بطريقة غلي مطحون القهوة الشهباء ذات اللون البني الفاتح.
* عملية تحميص القهوة.. مراحل من التفاعلات الكيميائية الحرارية
* ست درجات لتغيير لون حبوب القهوة
* إن ما يتسبب في حدوث تغيرات في النكهة لحبوب القهوة الخضراء، هو حصول عدة تفاعلات كيميائية حرارية خلال عملية التحميص. ومن أهمها «تفاعلات ميللارد» Maillard reaction التي تحصل فيما بين السكريات والبروتينات، و«تفاعلات كاراميل» caramelization reaction التي تحصل فيما بين السكريات والسكريات. ولكن علينا ملاحظة أن المركبات الكيميائية الموجودة في الحبوب الخضراء النيئة هي مركبات ثابتة نسبيا، بينما تلك الناتجة عن عملية التحميص، والتي لها دور مهم في نكهة القهوة، هي مركبات كيميائية غير ثابتة، وب قابلة للتغير، وتغيير نكهة وطعم القهوة. ولذا يفضل تأخير عملية تحميص حبوب القهوة إلى قرب وقت استخدامها لإعداد مشروب القهوة.
وهناك ست درجات لتغير لون حبوب القهوة خلال عملية التحميص، نتيجة لمقدار درجة الحرارة التي تتعرض لها الحبوب ومدة حصول ذلك. وتبدأ الحبوب الخضراء النيئة للقهوة بالتغير في اللون تدريجيا مع ارتفاع درجة الحرارة فيها حين التحميص. وعندما ترتفع درجة الحرارة إلى نحو 205 درجات مئوية، تحدث «الفرقعة الأولى» first crack لحبة القهوة. ويصبح لونها بنيا باهتا، أي بلون قشور القرفة أو الدارسين. وينتفخ حجمها قليلا، ويبقى سطحها غير لامع، ولا تظهر عليها نكهة التحميص، وتظل محتفظة بحموضتها العالية وحدة طعمها ومحتواها من الكافيين.
وبعد ذلك وعند بلوغ الحرارة نحو 220 درجة مئوية، يتبخر منها جزء مهم من الماء، مما يعني نقص وزن الحبة، ولكن يزداد حجمها وتنتفخ، ويزداد غمق لونها قليلا. وخلال ذلك تتطاير أيضا الغازات منها وتبدأ فعليا التفاعلات الكيميائية بالحصول فيما بين مكونات الحبة، وخاصة تزداد «تفاعلات ميللارد» المنتجة لتغيرات النكهة والطعم للقهوة. ولكن يظل غلاف حبة القهوة خاليا من اللمعان الذي يظهر عند التحميص في درجات حرارة أعلى، كما سيأتي معنا. كما يكون طعمها سكريا أكثر، وأقل حموضة، وتبدأ كمية الكافيين فيها بالنقصان.
ثم عند بلوغ درجة 230 درجة مئوية تحصل «الفرقعة الثانية» second crack، ويغدو لونها بنيا بدرجة متوسطة للغمق، ويزيد حجم الحبة بنسبة 50 في المائة ويقل وزنها بشكل كبير نتيجة لتبخر الماء عنها. ونتيجة لهذه الحرارة يحصل تفاعل «كاراميل» فيما بين أنواع السكريات داخل الحبوب، وب تظهر على سطحها، وبدرجة متوسطة، مادة ذات هيئة زيتية. وهي في الحقيقة ليست زيتا دهنيا، بل مادة الكراميل اللامعة.
ومع طول هذه المدة، دون رفع الحرارة أكثر، أي دون الوصول إلى درجة 240 درجة مئوية تستمر تلك التفاعلات الكيميائية ويزداد غمق لون حبوب القهوة. ويغدو سطحها زيتيا أكثر ونكهتها غنية أكثر.
وعند تعريض الحبوب لحرارة تفوق 240 درجة مئوية، تحترق الحبوب وتفسد نكهتها وتتفحم.
وتشكل السكريات بأنواعها الأحادية والثنائية والكثيرة، نحو 50 في المائة من وزن حبة القهوة الخضراء النيئة. وسكريات حبوب القهوة منها ما هو حلو الطعم، مثل سكر «غلوكوز» glucose و«فروكتوز»، fructose و«سكروز» Sucrose. ومنها ما لا طعم سكري له، مثل سكر «مانونز» mannose و«أرابينوز» arabinose و«غالاكتوز» سكر الحليب galactose.
وسكر «السكروز» الثنائي، أو المعروف بـ«سكر المائدة» العادي، أعلى في النوع «العربي» للقهوة، بنسبة 9 في المائة من مجمل سكريات حبة القهوة. وتتحدث الدراسات العلمية التي بحثت في نوعية القهوة coffee quality، في نتائجها عن أنه كلما ارتفعت نسبة سكر «السكروز» كلما كان طعم ونكهة مشروب القهوة أفضل. ولكن عملية التحميص، من خلال تفاعلات «ميللارد» وتفاعلات «كاراميل»، تؤثر بشكل مباشر على تلك السكريات الطبيعية لحبوب القهوة. وعلى سبيل المثال، فإن عملية التحميص تدمر نحو 90 في المائة من مخزون سكر «سكروز» الأصلي، حتى لو كان التحميص بدرجة خفيفة.
وتشكل البروتينات نحو 13 في المائة من وزن حبوب القهوة، أيا كان نوعها. ولأن البروتينات تدخل بشكل أساسي في تفاعلات «ميللارد»، فإن غالبية البروتينات يتم تدميرها بفعل عملية التحميص، ولذا يظهر القليل جدا منها في قدح القهوة، أسوة بالسكريات.