فهد عامر الأحمدي
في رحلة قديمة إلى هولندا حاولتُ ممازحة المرشد
السياحي بقولي : "لم أكن أعتقد أن اللغة الهولندية خشنة الى هذا الحد" فرد
علي بجدية "صحيح ؛ حتى إنها أسوأ من العربية" ...
ولم يكن جوابه هذا على سبيل التهكم أو المزاح بل نتيجة خبرة طويلة سمع
خلالها لغات عالمية كثيرة .. وما دعاني لبدء النقاش أصلا ملاحظتي كثرة
الحروف الخشنة والقوية التي تلفظ بها كحرف "الخاء" و"الشين" و "الراء"
(لدرجة قارنت خاءها باللغة العبرية، وشينها بالألمانية، وراءها بالتوغالية)..
فبصرف النظر عن بلاغة وقوة أي لغة هناك تفاوت بين لغات العالم في عذوبة
النطق وموسيقى الكلمات ورشاقة المخارج (وهذا رأي شخصي بالمناسبة) ..
فاللغة الفرنسية مثلا أكثر رومانسية من الروسية، والأسبانية أكثر رشاقة من
اليابانية ، والإيطالية أكثر عذوبة من الجرمانية .. وحين نراجع تاريخ
الموسيقى والأدب الأوربي نجد أن الأوبرات العظيمة كتبت دائما باللغة
الإيطالية بسبب عذوبتها ومناسبتها للغناء ، في حين لا توجد في اللغة
الألمانية أوبرات عظيمة حيث خشونة اللفظ جعلت الألمان يكتفون بتأليف
السيمفونيات الموسيقية ..
أما في الأدب فنلاحظ أن معظم الأعمال الشعرية والعاطفية الرقيقة كتبت
باللغات المتفرعة من اللاتينية القديمة (كالفرنسية، والإيطالية،
والبرتغالية، والأسبانية) التي توصف لهذا السبب باللغات الرومانسية .. وفي
المقابل نلاحظ أن أعظم أعمال الفلسفة والعلوم والرياضيات كتبت باللغات
المتفرعة من أصل جرماني قديم (كالألمانية والسويدية والإنجليزية
والهولندية) وتتميز بالصرامة والوضوح وقوة اللفظ وتنتشر حاليا في شمال
أوربا !!
... أما العجيب أكثر فهو دراسة حديثة تدعي أن الجنين يتعلم اللهجة المحلية
وهو ما يزال في بطن أمه .. فالجنين يمكنه في الأشهر الأخيرة سماع أصوات
المحيطين به (أو بوالدته بتعبير أدق) وتصبح ب مرجعا لطريقة نطقه حتى
قبل تعلمه للنطق .. وهذا الرأي العجيب خرج بعد متابعة 300 مولود فرنسي
و300 مولود ألماني فاتضح أن مواليد فرنسا يميلون للمناغاة باستعمال كلمة
(أووه) في حين يميل مواليد ألمانيا الى المناغاة باستعمال (آآغ) حسب مجلة
Current Biology !!!
... ليس هذا فحسب بل لاحظت شخصيا وجود تمازج وتداخل بين جدية وصرامة
الملامح وبين خشونة وقوة المخارج (وهذا أيضا رأي شخصي) .. فكثيرا ما
تساءلت مثلا إن كانت هناك علاقة بين اللغة الجرمانية وصرامة الملامح التي
تميز الألمان ، وعن وجود علاقة بين اللهجة الفرنسية والشفتين المزمومتين
لدى الفرنسيين ، وما إن كان لرشاقة اللغة الايطالية علاقة بتلقائية الشعب
الإيطالي وشخصيته المندفعة بل ومدى الترابط بين جلافة الأعراب (الذين
ذكروا في القرآن بهذا السياق) وطريقتهم القاسية في الحديث والتخاطب !!
*** ***
... على أي حال (كل هذا) لا يعني وجود علاقة كاملة أو أحكام مطلقة تربط
بين الإبداع البشري ورومانسية أو جدية أي لغة ؛ غير أنني أحاول فقط لفت
الانتباه الى دور (مخارج الحروف) وعذوبة الألفاظ في ترجيح مسار الإبداع
الجماعي ونسبة تقبله من الثقافات الأخرى .. كما أتساءل عن دور اللهجة
(وموسيقى التخاطب) في إضفاء سمة اللطف أو الخشونة على الشعوب الناطقة بها
وسمعتها العالمية بهذا الخصوص .. فكل من سمع نقاشات الأعراب مثلا ظنهم
يتعاركون ، وكل من سمع كلام امرأة إيطالية أو فرنسية تمنى أن لا تصمت أبدا
، وكل من سمع خطابا بالألمانية أو العبرية شعر بإزعاج وتكرار غير مريح لـ
(شخن لخن) !!
..... خبير لغوي فاهم حاول اختصار الموضوع بقوله :
خاطب حبيبتك باللغة الإيطالية، وزوجتك باللغة الفرنسية،
وصديقك بالانجليزية، وحصانك باللغة الألمانية !