هل نقضي على ثقافتنا باسم الدين !
منذ فترة ليست بالكبيرة بدأنا نلاحظ موجة من الأغانى والكليبات والأفلام على الطريقة الغربية،
والتى قام منتجوها باقتباس بعض أنواع الفن الغربى الذى لا يتناسب وقيمنا، ولايتناسب وحاجاتنا،
بل هو فن نشأ نتيجة عصر الترف الشديد الذى تحياه بعض الدول الصناعية الكبرى. فبدأنا نشاهد
أغانى راقصة وموسيقى صاخبة وفتيات عارية بل وأفلام حركة وإثارة دون أن يكون لدينا هدف من
إنتاج تلك الأفلام سوى تقليد الآخر، مع أن أفلام الحركة هى فى رأيى المتواضع جزء أصيل من
الثقافة الغربية التى قل أبطالها الحقيقيين فلجأوا إلى الأسطورة.
ومع انتشار هذا النوع من الفن الذى لا يتفق مع هويتنا، ظهرت الدعوة لوجود فن إسلامى يجابه
هذا الفن الجديد المنتشر ويكون بديلاً عنه لنشر قيم الخير والتسامح بدلأ من نشر ثقافة الإباحية
والقتل والتدمير.
واحترم العديدون تلك الدعوة لما فيها من محاولة لتخليصنا من الغزو الثقافى الذى نحياه. ولما بدأ
بعض الفنانين الإستجابة لتلك الدعوة ظهرت العديد من الأغانى المصورة التى تسعى لنشر قيم
الإسلام المتسامحة.
ومع إزدياد إنتشار تلك الأغانى بدأت الطامة الكبرى تحدث، وهى أننا لم نتخلص أبداً من الغزو
الثقافى الغربى، بل أصبحت الأغانى المصورة الدينية التى ننتجها تُنتج فى نفس القالب الغربى إياه،
فتجد نفس الموسيقى الراقصة، ونفس الملابس ذات الطابع الغربى، ونفس طريقة الإخراج وحركات
الكاميرا السريعة، بل والأكثر إثارة للغيظ هو وجود العديد من الأصوات الرديئة التى اعتبرت أن
مجرد غناءها للدين هو مغفرة لذلك الصوت الذى يخرج من حنجرة لا تصلح للغناء. وما زاد الأمر
سوءاً هو أن منتجو تلك الأغانى قد شاركوا فى استنزاف مواردنا الاقتصادية وأصبحت اعلانات
تحميل تلك نغمات تلك الأغانى على الهاتف النقال تملأ الشاشات، فأصبحنا باسم الدين نصيب
اقتصادنا فى مقتل.
إن الأمر أشبه بالحفاظ على نفس طريقة الحياة الغربية مع استبدال بعض الكلمات بكلمات أخرى
دينية، فتركنا أساس المشكلة ورأينا أن الحل يكمن فى جزء بعيد جداً عن المشكلة الرئيسية.
إن الدول الصناعية قد قامت حضارتها بعد الثورة الصناعية على حساب النفع والخسارة فقط، دون
اعتبار لحقوق الإنسان التى يتشدقون بها علينا، وربما لهذا يُلقى القمح فى البحر حتى لا ينخفض
سعره بينما هناك ملايين الأفواه الجائعة، بل وتُقدم المعونات الاقتصادية بشروط حسب تعاون الدولة
المتلقية للمعونة أو عدم تعاونها كما كان الأمر فى الحرب الباردة.
وعليه فإن الغرب يعتمد علينا بشدة فى تصريف المواد التى ينتجها، وهو يملك فائض إنتاج كبيرمن
السلع التافهة التى لا تقدم ولا تأخر ولكنها تجعلك بدلاً من أن تستمع للأغانى على شريط كاسيت،
تستمع إليها على هاتفك النقال. ولنعلم جيداً أن الاستمتاع بالسلعة لا يحدث إلا إذا كانت القيم
الثقافية فى البلد الذى ستتواجد فيه السلعة مناسبة للاستمتاع بالسلعة. فمثلاً لا يمكن أن يُعرض
إعلان عن معجون أسنان يجعل الفتيات تنبهر بك- ولا أعرف ما العلاقة بين الاسنان والفتيات – لا
يمكن عرض مثل هذا الإعلان فى بلد تنتشر فيها العفة والغيرة. وعليه فإن الدول المنتجة للسلعة
لكى تستطيع تصريف تلك السلعة عليها أن تقوم بحملة ثقافية كبيرة لتغيير تلك القيم عند أهل هذه
البلد، وبالتالى يمكن وبكل بساطة أن تنتشر تلك السلعة، وبالتالى يتحقق مزيد من الكسب المادى
لهم. وبهذه الطريقة تستفيد الدول الصناعية من سياسة التغريب التى تتبعها لكى تقوم بتصريف كل
بضاعتها الزائدة التافهة.
وعليه فإن حفاظنا على نفس نمط الحياة الغربى مع تبديل كلمات الأغانى التى نسمعها لتصبح دينية
بدلاً من رومانسية لن يقدم أو يأخر فى حل المشكلة، بل هو دليل جديد على أن السطحية تنتشر
بسرعة كبيرة بيننا.
إننا نخشى كثيراً أن ننسى ثقافتنا وسط هذه الفوضى الفنية التى نحياها، نخشى أن نتوقف عن
دراسة تاريخ الموسيقى العربية ولا نحاول تطويرها، ونخشى أن لا نجد حليم آخر ليسطر بصوت
كالطوفان تاريخ أمتنا بعد أن احتواه بقالب عربي راقي.
لقد عشق العرب قديماً الخط العربى وجاهدوا من أجل تطويره لأنهم كانوا يعتبرونه فناً خاصاً بهم،
لم يتأثروا به من حضارة أخرى أو طوروه من فن آخر، بل كان دليل هويتهم وثقافتهم الرائعة.
وعليه فإننا نحتاج لثورة شاملة فى طريقة حياتنا وفى طريقة تفكيرنا فى الأمور، وهذه الثورة لن
تأتى إلا بعد محاولات مضنية لنشر ثقافتنا وقيمنا ومبادئنا وفننا الخاص بنا، نحتاج أن نغنى لأنفسنا
بلغتنا وبثقافتنا لا بطريقة غربية.
ولعل البعض يتساءل .. وماالضير أن نغنى للغرب ديننا ومبادئنا بطريقتهم، وهم لن يفهموا ثقافتنا
إن غنينا بطريقتنا؟
وإجابة هذا السؤال هى أن هناك نوعين من المطربين، المطرب العالمى الذى يغنى بكل اللغات و
المطرب الوطنى الذى يغنى لبنى جنسه، فالمطرب الوطنى يغنى بلغة قومه ويحكى آمالهم وأحلامهم
وحتى الأغانى الرومانسية تكون حسب تقاليدهم أما المطرب العالمى فهو يغنى لقيم ثابتة كالحق
والخير والجمال والحب وهو عندئذ يغنى للعالم كله فلا يغنى بثقافة واحدة بل يغنى بثقافات مختلفة
وبألحان مختلفة، والمثال الأقرب حالياً لهذا النوع من المطربين هو سامى يوسف، الذى يحاول
نشر قيم الإسلام للعالم كله. أما أن تغنى بطريقة غربية ولسانك ينطق بالعربية كما يفعل البعض
لهو أكبر دليل على نجاح الغزو الثقافى والفكرى، وعلى عدم فهم هذا النوع من الفنانين لحقيقة
الثقافة.
وإننى أعتقد أن المطرب الوطنى هو من يعيش أطول فى أذهان الناس، لأنه يحكى آلامهم وأفراحهم
ويحمسهم عند القتال ويواسيهم عند الهزيمة، ولقد رأينا جميعاً كيف أحب المصريون عبد الحليم
حافظ وكيف كانوا ومازالوا متأثرين به على الرغم من مرور ما يقرب من ثلاثين عاماً على وفاته،
وكيف ينسونه وهو من غنى فدائى وصورة والبندقية اتكلمت وأحلف بسماها وبترابها وعدا النهار
وياأهلاً بالمعارك، وكيف ينسونه وهو من غنى رسالة من تحت الماء وموعود وقارئة الفنجان.
إننا نحتاج بشدة لمطرب وطنى، مطرب يحمسنا ويبين لنا اننا سنجاهد لاستعادة الأرض، مطرب يغنى
لانتصار حزب الله الأخير على الصهاينة، مطرب يغنى لحماس ولشهداء فلسطين ، مطرب يعلن أن
القوة هى السبيل الوحيد لمنع انتهاك الكرامة العربية، مطرب يصرخ مطالباً بحقوق الناس يوم أن
ضاعت حقوقهم فى غياهب الروتين.
إننا نحيا فى عصر تملؤه المكايد ضد هويتنا وثقافتنا بل وحياتنا كله، عصر أصبحنا مهددين فيه
بالفناء، فكيف بالله ندعو لأن ينتشر الحب فى العالم. هل رأيتم من قبل رجل يُذبح وهو يقف مبتسماً
منادياً بالحب بين البشر؟. الا يستطيع ذلك الرجل أن يحاول أن يدفع السكين عن رقبته؟
إننى أشعر أننا قد خلقنا وهماً وعشنا فيه، وصدقنا أننا بهذا الطريقة نبنى حضارتنا من جديد. بالله
عليكم ، أليس هذا هو السخف بعينه؟.