الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له تعظيماً لشانه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه . اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه ..
أما بعد :
عباد الله .. أوصيكم ونفسي بتقوى الله ومن تقوى الله الصبر على الطاعات، الصبر عن المنكرات ، والصبر على قضاء الله وقدره في كل الأحوال وفي كل المسارات ..
عباد الله .. في خبر إبراهيم عليه السلام عجب العجاب فتعالوا نتبع الخبر .. تعالوا ننتبع الخبر أنا وإياكم بإيجاز واختصار ..
إبراهيم عليه السلام حُرم الولد لسنوات طوال ثم رُزقه على كبر ، ثم أمره الله أن يضعه وأمه في وادٍ غير ذي زرع والخبر معروف { رَّبَّنَا إِنّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّّيََّتي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكِ المُحَرَّمِ } ثم لما كبر الغلام وشب وتعلق قلب إبراهيم به .. كيف لا والله يصف ذلك الغلام بوصف عجيب قال الله { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ } ثم ها هو الأب الشيخ الكبير المقطوع من الأهل والقرابة ..المهاجر من الأرض والوطن ، رُزق بغلام لطالما تمنى أن يناله ثم أُعطيه ..موصوف من ربه بالحلم ..فما كاد يأنس به ويشب ويترعرع أمام عينه فإذا هو يرى في منامه أنه يذبحه ..فيرى في منامه أنه يذبحه فيدرك إبراهيم أنها إشارة من ربه بالتضحية .. إنه الابتلاء والامتحان.. فهل تردد أو توانى!! أبداً والله.. ولم يأت في قلبه إلا الشعور بالطاعة ، ولم يخطر بباله إلا التسليم والاستسلام لربّ العالمين .. تأملوا الأمر كان إشارة ولم يكن وحياً صريحاً ولا أمراً مباشراً ولكنها إشارة من ربه وهذا يكفي ..
لله أكبر ..كم من الأوامر الصريحة اليوم .. كم من الأوامر الصريحة اليوم تُترك ويتهاون بها .. لم يتسخط إبراهيم ولم يعترض ..لم يقل لماذا يا رب أذبح ابني الوحيد ! لم ينزعج ، لم يجزع ، ولم يضطرب ..إنما قبول ورضى وهدوء وطمانينة ..
يظهر ذلك في كلامه لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } كلمات المتمالك لأعصابه المطمئن لأمر الله الواثق بأداء الواجب.. كلمات مؤمن صادق .. لم يتعجل ويندفع لينتهي الأمر بسرعة ويستريح .. ووالله الذي لا إله إلا هو إن الأمر أشق مما تتصور .. والله الذي لا إله إلا هو إن الأمر أشق مما تتصور .. هو لم يطلب منه أمراً قد يودي بحياته إنما يطلب أن يتولى الأمر بنفسه .. إنما يطلب أن يتولى الأمر بنفسه .. وأن يتولى الذبح بيديه.. ثم هو ذا يعرض الأمر على الابن ، ويطلب من الابن التروي في الأمر { يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } سبحان الله أما كان في أخذ الابن على حين غرة راحة له وانتهى الأمر..أما كان في أخذ إبراهيم للابن على حين غرة راحة له و انتهاءً للأمر ..
ها هو يعرض عليه الأمر وكأنه أمراً مألوفاً فالأب مبتلى بفعل الأمر، والابن مبتلى بالسمع والطاعة ..
أين الأبناء الذين يعقون آباءهم !!! أين الآباء الذين يعقون أبناءهم !! ها هو الأب يعرض على ابنه أن يقتله فيقول الابن مستمعاً مجيباً { يَا أَبَتِ افْعَلْ مِا تُؤْمَرُ ( افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ) سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِين } فلله درّ الأب ولله درّ الابن ، والتربية لم يعد لها دور .. يعرض عليه الذبح لرؤية رآها فيستسلم الابن للأمر .. { قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مِا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }
لم يتلقَ الأمر في طاعة واستسلام فقط بل برضى ويقين ..
تأمل في قول الابن { يَا أَبَتِ } في كل أدب ومودة ..فالذبح لا يخفيه ولا يزعجه ولا يفقده أدبه { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ }.. فهو يعلم أن الرؤيا إشارة من ربَّ العالمين .. فهو يعلم – أي الابن – أنَّ الرؤيا إإشارة من ربّ العالمين .. ثم أظهر الابن ضعفه وأنه لن يحتمل ذلك شجاعة وقوة ، ولكن أدباً مع ربه واستعانة بالله { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِين } أدب وروعة في الإيمان ، وعظمة في الاستسلام ..
ثم بعد الحوار يبدأ التنفيذ .. ثم بعد الحوار يبدأ التنفيذ{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ } قال اسماعيل لأبيه : اشدد رباطي .. اشدد رباطي ليسكن جسدي كما سكن قلبي ، واكفف ثيابك عن دمي لئلا يصيبها فتحزن أمي لرؤيته و أقرئها أمي مني السلام .. فقال إبراهيم : نعم العون .. نعم العون أنت يا بني ..
فأين الأبناء يعينون آباءهم اليوم !!! أين الأبناء يعينون آباءهم بعد أن بلغهم من الكبر ما بلغهم .. بل لقد تكلَّم معي قبل أن أدخل المنبر الآن .. من يقول لي يقف أمام وجهي ويسبني ويشتمني .. يقف ابن العشرينات أمام وجهي ويسبني ويلعنني ويتطاول علي في الكلام .. يقول الأب : حتى أصبحت خائفاً على نفسي منه .. حتى أصبحت خائفاً على نفسي منه ..
قال اسماعيل لأبيه : اشدد رباطي ليسكن جسدي كما سكن قلبي ، واكفف ثيابك عن دمي لئلا يصيبها فتحزن أمي لرؤيته و أقرئ أمي مني السلام .. قال إبراهيم : نعم العون أنت يا بني ..
قال ابن الجوزي : الله اكبر.. ليس العجب أمر الخليل بالذبح ، إنما العجب مباشرة الذبح بيديه .. ليس العجب أمر الخليل بالذبح العجب أنه باشر الذبح بيده ..أنه باشر الذبح بيديه ، ولولا حبّ الآمر لما هان المأمور .. ولولا حبّ الآمر لما هان المأمور ..
انظر الفرق بين اذبح ولدك وباشر الذبح بيدك ، وبين من قيل لهم اذبحوا بقرة فذبحوها وما كادوا يفعلون ..
ثم أتت لحظات التنفيذ { فَلَمَّا أَسْلَمَا}.. { فَلَمَّا أَسْلَمَا } وكبه على وجهه واستسلم الأب للأمر.. واستسلم الابن للذبح.. هذا هو حقيقة الإسلام .. هذا هو حقيقة الإسلام ..استسلام لله بالأمر والطاعة والرضا والتسليم ، { وَتَلَّهُ لِلْجَبيِِِنِ} ووضع السكين وأعملها في رقبته فلا السكين قطعت ولا الغلام جزع .. { تَلَّهُ لِلْجَبِينِ } ووضع على رقبته السكين وأعملها في رقبته فلا السكين قطعت ولا الغلام جزع .. ، ثم أعاد الكرة مرة مرة .. مرة تلو المرة وهو يحذ السكين في كل مرة ، فلا السكين تقطع ولا الغلام يجزع ..
اعلم بارك الله فيك ..أنه ليس المراد من الابتلاء التعذيب .. اعلم بارك الله فيك..أنه ليس المراد من الابتلاء التعذيب ..ولكن المراد منه التهذيب { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ..
فلا تخرج الأعمال على أحسن صورة إلا بالتهذيب والتدريب ..
لقد استسلم إبراهيم ورضي اسماعيل ولم يبقَ إلا أن تُزهق الروح ويسيل الدم ، ثم الابتلاء ورفع الامتحان ، وظهرت النتائج أن الله لا يريد الدماء والإجساد .. ظهرت النتائج أن الله لا يريد منا الدماء والإجساد ..ولكن يريد منا الإسلام والتسليم والصدق واليقين .. لكن يريد منا الإسلام والتسليم والصدق واليقين ..
ولقد حقق الأب والابن هذا بكل صبر وثقة ومعين ..
{ وَنَادَينَاهُ أّن يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُؤيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ ، وَ فَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } لقد حققت الرؤيا وسلَّمت واستسلمت ..
فلا ابن ولا مال أعز وأغلى من الله وحده .. فلا ابن ولا مال أعز وأغلى من أمر من أوامر الله وحده ..
نعم يا إبراهيم لقد فعلت وجدت وأعطيت أعز شيء في هدوء ورضا واطمئنان ولم يبقَ إلا اللحم والدم وهذا ينوب عنه ذبح عظيم ..وهذا ينوب عنه ذبح عظيم ..
فنحن لا نريد دم اسماعيل ولا لحمه ولكن نريد منكما الإسلام والاستسلام ، والصبر على القضاء والثقة واليقين ..
عباداالله .. إبراهيم هو خليل الرحمن ، والخلة هي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه حتى لم يبقَ فيه موضع لغير المحبوب .. حتى لم يبقَ موضع لغير المحبوب ..
ولذا سمي الخليل خليلاً ، وهذا هو السر والله أعلم الذي لأجله أمر الله الخليل بذبح ولده ، وثمرة فؤاده وفلذة كبده ..سأل الولد فأعطيه ، وتعلق به قلبه وأخذ شعبة من قلبه ، والخلة منصب لا يقبل الشراكة والقسمة .. والخلة منصب لا يقبل الشراكة والقسمة ..فغارالخليل على خليله .. فغار الخليل على خليله ..أن يكون في قلبه أحد سواه فأمره بذبح ولده .. فأمره بذبح ولده ..ليخرج المزاحم من قلبه ، فلما وطَّن نفسه على ذلك وعزم عليه حصل المقصود فلم يبقَ في إزهاق نفس الولد مصلحة فحال الله بينه وبين ذلك وفداه بالذبح العظيم ..فجاء الأمر { يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُؤيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ } ...أي من أطاعنا وامتثل أوامرنا لا{ خَوْفٌ عَليْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
عباد الله ..ما تمر به بلادنا اليوم من فتن ومصائب وأهوال جسام .. تحتاج إلى صبر وثقة ويقين بربّ العالمين ، وأنه لا يأتي من الله إلاَّ خير .. وأنه لا يأتي من الله إلاَّ خير ..
سحابة صيف وستنقشع { وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }..
فردد وكرر وادعو دائماً :
اللهم .. اجعلنا ممن إذا أنعمت عليه شكر ، وإذا ابتليته صبر ، وإذا أذنب استغفر..
اللهم .. حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين
اللهم.. لا تحرمنا خير ما عندك بأسوء ما عندنا يا حيّ يا قيّوم
اللهم.. انصر من نصر الدين واخذل من خذل عبادك الموحدين
عباد الله .. ألا إنَّ الله أمركم بأمر بدأ به بنفسه وثنَّى به بالملائكة المسبحة بقدسه
فقال جلَّ من قائل
( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَ سَلِّمُواْ تَسْلِيماً )
اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
اللهم ارضى عن صحابته أجمعين ، وعلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي
وسائر الصحابة وسائر التابعين ومن سار على هديهم واقتدى بهداهم إلى يوم الدين
وعنا معهم بجودك وكرمك ورحمتك
يا أرحم الراحمين