كتب د. سعيد اللاوندى للمصري اليوم::لهذه الأسباب لن يعتذر بوتفليقة
قد تشترك الجزائر مع باقى الدول العربية والعالم فى جملة المشكلات التى تعصف بالداخل مثل البطالة، والفقر، والعنف، وضعف الانتماء والهجرة غير الشرعية، لكنها تكاد تستأثر وحدها بأزمة تتعلق بالنظام السياسى والطبقة الحاكمة على وجه الخصوص.. وهى أزمة ليست جديدة تماماً فهى موجودة منذ فترة، لكنها استفحلت فى العقدين الأخيرين، وتحديدا منذ أوائل تسعينيات القرن الماضى عندما أسفرت الانتخابات عن بروز الإسلاميين كتيار سياسى عريض كاد يقبض - بين عشية وضحاها - على مقاليد السلطة لتجد الطبقة الحاكمة نفسها إما وراء القضبان أو فى طى النسيان، وأهم ما كشفت عنه هذه الانتخابات أمران،
الأول: هشاشة الحكام وضعفهم بل وهوانهم على أنفسهم وعلى الآخرين،
والثانى: أصبح العنف هو اللغة الطبيعية سواء فى السياسة أو الرياضة أو المعيشة وتسربل الدين للأسف على أيدى الجماعات الإسلامية المسلحة برداء الموعظة والأسوة الحسنة وليس فيه قليل أو كثير من هذا أو ذاك على كل حال.
والثابت عملاً أن الطبقة الحاكمة فى الجزائر - وهى فى معظمها جنرالات - وبعض السياسيين المحترفين يتنازعها تياران: تيار الفرنسة وتيار العروبة.. وعبر المسيرة السياسية الدموية والتى لا تخلو من صفقات فى هذا البلد العربى الشقيق تميل الكفة حيناً نحو العروبة، ثم تميل حيناً آخر نحو الفرنسة.. ولكل تيار أجندته الخاصة وأولوياته التى لا يُقبل فيها جدال أو مزاح!
وليس خافياً على أحد اليوم أن كفة «الفرنسة» هى الراجحة ويتبدى ذلك فى التعليم والسياسة والاقتصاد وباقى مناحى الحياة، إذ حدثت ردة قوية عن الثوابت التى كانت معروفة فى زمن الزعيمين الأكثر خلوداً فى تاريخ الجزائر المعاصر، وهما أحمد بن بيلا، وهوارى بومدين، بل تتحدث بعض الأوساط عن أن الأول تم استبعاده كرهاً، والثانى دُسّ له السم فى الطعام فمات، والسبب هو عروبتهما التى رآها بعض أركان النظام خطراً داهماً على الدولة.
وكلنا يذكر الرئيس الجزائرى الأسبق محمد بوضياف الذى كان يعيش لاجئاً سياسياً أو منفياً «لا فرق» فى المغرب وكيف دفع حياته بطعنة من الخلف أثناء احتفال رسمى وشعبى كان مقرراً أن يتحدث فيه.. ومعروف أن بوضياف كان من رعيل السياسيين المحترفين الذين يميلون بطبعهم إلى تيار العروبة وكانت لديه رؤية سلمية لحل النزاع بين الجزائر والمغرب بشأن الصحراء الغربية من منظور عربى توحدى وليس انفصاليا.. لذلك كان لابد من التخلص منه وقد كان!
ولم يعد من هذا الرعيل «أقصد قدامى السياسيين» سوى بوتفليقة الذى يعرف عنه ميله القوى للتيار العروبى، ولقد كان أشهر وزير خارجية فى تاريخ الجزائر وتربطه بعدد من رموز الحياة السياسية العربية علاقات قوية، لكنه استوعب الدرس سريعاً، فلقد رأى بأم عينيه مصير العروبيين أمثال بوضياف وقبله بومدين وبن بيلا، بل وتروى الحكايات عن تنكيل واستبعاد وتهميش لرجال الصف الثانى المحسوبين على تيار العروبة فى جميع الوزارات إلى حد أن أحدهم تحدث عن أن الناطقين باللغة العربية يراهم المتفرنسون الجزائريون كفاراً!
وأضيف إلى ذلك أن عبدالعزيز بوتفليقة الذى يعانى مرضاً عضالاً لم تنجح الجراحات فى استئصاله تماما، جاء به تيار الفرنسة لكى يكون «رمانة الميزان» لبعض الوقت، ريثما يتم ترتيب البيت من الداخل.. وقنع الرجل - على مضض - بالدور الذى يقوم به «فى حدود ما هو مرسوم له»، واستوعب درس العروبيين السابقين، خصوصاً بوضياف الذى وقع صريعاً على مرأى ومشهد من الجميع.. وهنا يمكن أن نضع أيدينا على السبب المباشر الذى سيجعل بوتفليقة صامتاً صمتاً أبدياً بخصوص أزمة مصر والجزائر، فلو كان الأمر «كله» بيده لما تأخر الرجل لحظة عن الاعتذار، لكنه يعلم أنه لو فعل.. لكان فى ذلك نهايته المحتومة!
ويؤلمنى أن أقول إن بوتفليقة - والحال هكذا - ليس أكثر من «ماريونيت» تحركه الجنرالات فى الاتجاه الذى يريدون، فهو لا يتحدث إلا لكى يشعل نيران الخلاف مع المملكة المغريبة بدعوى - هو أكثر الناس معرفة بأنها كاذبة وقد مر زمانها - أنه يدعم حركات التحرر الوطنى فى الصحراء!
وقد يطلب منه أن يدغدغ ما تبقى من مشاعر الوطنية والجندية والنضال بين الكهول والشيوخ فى الجزائر، فنجده يعرب عن غضبه لقانون تمجيد فترة الاستعمار الذى صدر عن برلمان فرنسا، مطالباً - من قبيل الابتزاز الذى يفضى إلى عقد الصفقات - بضرورة الاعتراف بالجرائم التى ارتكبها الفرنسيون فى فترة الاحتلال.. ثم يحفظ بوتفليقة - كطفل صغير للأسف - هذه المطالب، ويقدمها فى أكثر من صورة كشرط للدخول ضمن الفضاء المتوسطى لما عبر عنه الرئيس الفرنسى ساركوزى فى صيغة الاتحاد من أجل المتوسط.
نخلص من ذلك إلى القول بأن بوتفليقة الذى يجلس على مقعد الرئاسة فى الجزائر مهمته الجلوس فقط حتى لا يبدو المقعد شاغراً وهو موزع بين مرضه الذى يجتاج أحشاءه من ناحية، وخوفه من أن يلقى مصير بوضياف إذا ما لهج لسانه باعتذار لمصر وهناك من يقول: كيف يعتذر الرجل عن أزمة لم يشارك «لا من قريب أو من بعيد» فى إشعالها وبعض الصحف الفرنسية أشارت إلى أنه غضب، فى صمت، عندما علم بقرار الجنرالات الخاص باستخدام طائرات السلاح الجوى لنقل المشجعين إلى السودان!
يبقى أن نذكر أن النظام السياسى فى الجزائر التقط هذه الأزمة مع مصر منذ اللحظة الأولى، وقام بتوظيفها للتغطية على التسويات والتوازنات والترتيبات التى يقوم بها حاليا، لكن غاب عن باله أنها مجرد عمليات لإطالة عمر نظام تهرأ من الداخل ولم تعد تجدى معه رياضة أو سباحة أو سياسة.. أو مسرح العرائس كله!!