سليمان الحكيم
لا صوت يعلو على صوت «المدعكة»!
إنها «مدعكة» وليست معركة كما وصفها البعض من ذوى النيات الحسنة!
مدعكة بكل ما تحمل الكلمة من معان. فلم تكن مباراتنا مع الجزائر معركة بالمعنى الصحيح. رغم ان الاعلان الرسمى أو الحكومي. قد استخدم فيها كل عناصر الحشد المعروفة فى المعارك الحربية.. فتحول الى اعلام «للتعبئة» الجماهيرية مستخدماً تلك الاغنيات الحماسية التى انطلقت اثناء معاركنا التى خضناها يوم ان كانت لنا كرامة تستدعى القيام للذود عنها.. وهدف قومى نستنهض الهمم لإنجازه..!
هكذا تم تصوير المسألة على ان الجزائر دولة معتدية.. قامت بحشد أحد عشر لاعبا لغزو مصر والاعتداء على حقها فى كأس العالم.. فكان لابد من حشد الطاقات واستنهاض الهمم. لتحرير الكأس من ايدى غاصبيه الجزائريين، فذهبنا الى الملعب وكأننا ذاهبون الى ميدان الحرب وليس لمشاهدة «لعبة» مجرد لعبة فى كرة القدم..!
وللحق فقد كان اعلامنا ـ الخاص والرسمى ـ هو الذى بدأ فى رسم هكذا. على انها معركة حربية وليست مباراة فى مسابقة رياضية. فكان حديثنا عبر كل أجهزة الاعلام، عن «كرامة» مصر صاحبة الحضارة والتاريخ.. وعن المنتخب المصرى «سيد» اللعبة فى افريقيا. وعن مصر باعتبارها أم الدنيا.. وكلها مفردات لا تستعمل فى مجال الرياضة واللعب.. بل جرت العادة على استعمالها فى مجال الحروب والمعارك!
ورغم ذلك. كنا نحن أول من كذب هذه التى شاركنا جميعاً فى رسمها. فلم نصدق حقيقة انها معركة حربية أو حرب عسكرية. وإلا لما خضناها بمجموعة من الفنانين مطربات ومطربين ـ ممثلات وممثلين. وكأنهم ذاهبون للترفيه عن جنودنا فى جبهات القتال وليس لمشاهدة مباراة فى لعبة رياضية!
هكذا كانت لغة الخطاب الاعلامى فى واد والتعامل مع الحدث فى واد آخر، ولم ينقص تلك التى رسمناها سوى استدعاء بعض الخبراء العسكريين ضيوفاً فى شاشات الفضائيات ليحدثونا عن خطة حسن شحاتة التى أعدها لخوض المعركة فى جبهة القتال. ورأى هؤلاء الخبراء فى مدى ملاءمتها لواقع الحال. وظروف المعركة وتضاريس الميدان!
لم نشاهد أحداً من هؤلاء الخبراء العسكريين الذين أطلوا علينا كثيرا فى حرب عاصفة الصحراء لكى تكتمل «المدعكة» فى أوضح صورها.. ولكن غياب هؤلاء لم ينقص من شيئا، ولم يقلل من اعتبارها مدعكة. بعد ان تكفل الجميع لنا بذلك.. فقد تحول الاعلام الرياضى الى اعلام عسكري. والمحللون الرياضيون الى محللين سياسيين والمحللون السياسيون الى محللين رياضيين. ولم يعد المفكرون وأصحاب الرأى والرؤى هم قادة الرأى العام. بل أصبح شوبير والغندور وعبده. ويوسف وغيرهم. هم قادة الرأى العام وموجهوه الى حيث تكمن مصالحهم!
هكذا اختفى صوت العقل. وعلا صوت الهوس. وأصبح دعاة التهدئة والتعقل. خونة وعملاء. أما دعاة الحرب. والنفخ فى نفيرها. فقد أصبحوا هم الوطنيون الغيوريون على كرامة مصر وعزتها الوطنية!
لقد قبلنا مقايضة هوارى بومدين ومالك بن نبى وعبد الحميد بن باديس ومحمد اركون وغيرهم من اعلام الجزائر فى الإسلام والقومية. بلاعبى فريقنا أمثال عمرو ذكى ومتعب وزيدان والمحمدي!
تنازلنا عن التاريخ بلحظة عابرة.. فبعنا الدائم بالزائل.. نسينا الإخوة فى الدين والعروبة.. ونسينا دماء الشهداء فوضعناها فى كفة الميزان بعرق اللاعبين!
دماء.. فى مقابل عرق!
دين وفى مقابل كرة!
وعروبة.. فى مقابل هدف!
نسينا ما فعله هوارى بومدين من أجل مصر وكرامتها. حين رهن بترول الجزائر ليحصل لنا ـ وليس له ـ على السلاح من روسيا. وتذكرنا كرامتنا التى أهانها ـ هكذا ـ أحد المهوسين فى مدرجات الملعب!
هكذا بعنا التاريخ. بلحظة هوس عابرة!
تذكرنا كرامتنا مع جماهير الجزائر الشقيقة ـ بعد ان تجاهلناها مع الجيش الاسرائيلى فى رفح ورحنا نطالب الجزائر بالاعتذار عن المساس بكرامة المصريين. وسيادة مصر. ونحن الذين اهدرنا كرامة المصريين وسيادة مصرهم مع إسرائيل التى تقتل المصريين كل يوم فى رفح وتعتدى على سيادتنا على الحدود!
والغريب ان الذين يطالبون الجزائر بالاعتذار للمصريين عن هتك كرامتهم لم يعتذروا يوما للمصريين عن هتك كرامتهم على ايديهم كل لحظة فى أقسام الشرطة. وسجونها!
لم يعتذروا للمصريين الذين تركوهم يصارعون الموت ضحايا لصاحب العبارة الذى فتحوا له الابواب ليتمكن من الهرب ليهنأ بالعيش فى أوروبا.
ولم يعتذروا للمصريين الذين ضخوا فى عروقهم دماء فاسدة بأكياس ملوثة هرب صاحبها هو الآخر ليهنأ بالعيش فى أوروبا.
ولم يعتذروا للمصريين الذين تركوهم تحت الانقاض فى الدويقة، بعد ان تفرغوا لبناء القصور والشاليهات وتركوا هؤلاء الغلابة لعشوائياتهم!
لم يعتذروا للمصريين الذين ألقوا بهم فى عرض البحر هربا الى لقمة العيش بعد أن ضيقوا عليهم فرص العيش الكريم فى وطنهم!
لم يعتذروا للمصريين الذين راحوا ضحايا قطاراتهم وعباراتهم.. ولم يعتذروا للمصريين الذين نهبوا أموالهم من البنوك.. ولم يعتذروا للمصريين الذين اذاقوهم الذل فى طوابير العيش. ولم يعتذروا للمصريين الذين أنهكتهم البطالة بعد أن عجزوا عن توفير فرصة عمل هم الأحق بها.
ولم يعتذروا للمصريين على تزويرهم الانتخابات.. وانتهاك كرامتهم أمام اللجان هل أبقى هؤلاء للمصريين كرامة ليعتذر آخر عن المساس بها؟
اين هى كرامة المصريين الذين يطالبون الجزائربالاعتذار عنها؟ هل حافظتم انتم على كرامة مصر والمصريين لتطالبوا الآخرين بالحفاظ عليها؟!
إذا كنتم تريدون من الجزائر أن تعتذر، فاسبقوها انتم بالاعتذار لمصر والمصريين عن كل ما اقترفته ايديكم بحق المصريين وكرامتهم!! من يعتذر لمن.. ولماذا؟
لماذا لم تطالبوا إسرائيل بالاعتذار الذين تطالبون به الجزائر الآن؟
ان الجزائريين لم يقتلوا مصريا واحداً. ولم يهدموا بيتا. ولم يرفعوا لنا حجراً من حجر.
واذا كانت الجزائر مطالبة بالاعتذار عن جرح مواطن مصرى أو اثنين. مجرد جروح سطحية. فبماذا تطالبون إسرائيل عن قتلها العشرات. وهدمها البيوت؟
لماذا لم تطالبوا إسرائيل بالاعتذار عن دفن الاسرى أحياء، وهم الذين اعترفوا بذلك ولسنا نحن الذين ندعيه؟
لماذا لم تطالبوا اسرائيل عن قتلها اطفال بحر البقر، وعمال أبو زعبل، وهدم بيوت المدنيين فى مدن القناة؟ لقد انتزعت ليبيا اعتذارا من ايطاليا عن سنوات الاحتلال. وانتزعت الصين اعتذارا من اليابان، وانتزعت جنوب افريقيا اعتذارا من بريطانيا. أما نحن فلم نطالب باعتذار أحد. ولم يعتذر لنا أحد عن شيء قام به. فلماذا نخص الجزائر وحدها بالاعتذار عن أمر تافه. قياسا لما قامت به إسرائيل أو غيرها؟!
واذا كنتم انتم الذين تنتهكون كرامة المصريين كل يوم فهل يحق لكم ان تطالبوا الآخرين بالاعتذار عن شيء أقل مما تقومون به. حتى أصبح عادة شهدت بها منظمات حقوق الانسان العالمية؟!
هكذا هى ملامح «المدعكة» التى غابت فيها الرؤية. وساد أركانها الضباب فالقاتل يطالب الآخرين بالاعتذار عنه للضحية. والضحية تثور فى وجه من توجه إليها بالسب ولا تثور فى وجه من توجه إليها بالسيف.. وتشعر بانتهاك كرامتها من شقيق، ولا تشعر بذلك من عدو!
وهكذا تحول موطن العداء من الشرق الى الغرب، وأصبح الصديق عدواً. وأصبح العدو صديقاً. ورحنا نطلب النصر فى غير ميدانه، ونحارب معاركنا فى غير مكانها ونحشد الجماهير لغير أهدافها. ونعبئ المواطنين فى غير اتجاههم. ونغنى للكرة أغانينا للحرب، ونهتف للاعبينا. هتافنا للجنود. ونكتب فى الرياضة كتابنا فى القتال.
ألم نقل لكم انها مدعكة.. ولا صوت يعلو على صوت المدعكة حتى لا يتهمنا أحد بالخيانة.. وقلة الوطنية.. والانسلاخ عن الشعب. والاستهانة بمشاعره!!
المرجع
http://www.al-araby.com/docs/article2142182983.html