ناصر أبوطاحون
أحاديث الإفك فى أحداث أم درمان
فاجأتنى صورة إعلامى رياضى على الشاشة مربوط الرأس وقد غرقت ملابسه بالدماء، هذا الرجل تم تقديمه للناس على أنه ضحية العنف الجزائرى، وهنا لم أتمالك نفسى ـ ليس دفعاً للشبهات عن الجمهور الجزائرى العنيف بطبعه ـ وإنما لأننى رأيت الرجل يصاب أمامى بعد أن سقط فى حفرة خارج الاستاد بفعل الظلام الذى كان يغلف المنطقة وقتها، وعندما سقط الإعلامى أمامنا هرعنا جميعاً نحوه وكان معه مجموعة من أصدقائه تكفلت بأمره ومنحهم البعض ماء لتنظيف الجرح بعد انزعاج الجميع من منظر الدم النازف منه، ورغم ذلك فوجئنا بصورة الرجل وهو يركب الطائرة ويتم تقديمه للناس على أنه أحد ضحايا الموقعة الحربية التى جرت!
لم يخطر ببالى ولا ببال أى من الزملاء الذين رافقونى فى رحلة الخرطوم لمتابعة مباراة منتخبنا القومى مع منتخب الجزائر أننا سنعود لنجد القاهرة غارقة حتى أذنيها فى بحر من الحكايات الملفقة والأكاذيب والقصص الدرامية المختلقة، ولما طالعت عناوين الصحافة فور نزولى من الطائرة القادمة من الخرطوم تصورت أننى كنت فى بلد آخر أو أننى لم أكن معهم رغم أننا كنا فى أوتوبيسات مجمعة تسير مع بعضها البعض.
مانشيت لإحدى الصحف يتحدث عن قتيل ومئات الجرحى ومانشيتات أخرى تتحدث عن مذبحة على نحو أثار دهشتى وجعلنى أتحسس جسمى بحثاً عن طعنة أو ضربة سيف أو أثر لسكين فلم أجد مع الأسف!
ولم أكن أتصور أننى سأضطر لكتابة شهادتى على الأحداث التفصيلية على العكس تماماً من الهمجيين الذين انشغلوا بإشعال نار التعصب قبل مباراة القاهرة وبعدها حتى وصلنا للهزيمة التى لحقت بفريقنا فى الخرطوم وما تلاها من إشغال كامل للفضائيات وبرامج التوك شو للحديث عن كرامة المصريين التى أهينت فى الخرطوم، ويا ليت الأمر توقف عند حدود التلاسن مع الجزائر بل تخطاه هجوماً على السودان الرائع وشعبه الكريم، ذلك الهجوم الذى توقف بتدخل سريع من الرئيس مبارك شخصياً.
وعندما قلت لنفسى ربما حدثت وقائع لم أرها فاجأتنى صورة إعلامى رياضى على الشاشة مربوط الرأس وقد غرقت ملابسه بالدماء، هذا الرجل تم تقديمه للناس على أنه ضحية العنف الجزائرى، وهنا لم أتمالك نفسى ـ ليس دفعاً للشبهات عن الجمهور الجزائرى العنيف بطبعه ـ وإنما لأننى رأيت الرجل يصاب أمامى بعد أن سقط فى حفرة خارج الاستاد بفعل الظلام الذى كان يغلف المنطقة وقتها، وعندما سقط الإعلامى أمامنا هرعنا جميعاً نحوه وكان معه مجموعة من أصدقائه تكفلت بأمره ومنحهم البعض ماء لتنظيف الجرح بعد انزعاج الجميع من منظر الدم النازف منه، ورغم ذلك فوجئنا بصورة الرجل وهو يركب الطائرة ويتم تقديمه للناس على أنه أحد ضحايا الموقعة الحربية التى جرت! لقد كان استخدام الرجل على هذا النحو أمرا مثيرا للدهشة بينما بقية الصور التى تولت الفضائيات إذاعتها عبارة عن لقطات تم تصويرها لزحام آلاف المصريين فى مطار الخرطوم يبحثون عن مقعد على أى طائرة للعودة للقاهرة هرباً من التعب والإرهاق وإحباط الهزيمة.
وكما حاولت لجنة السياسات ركوب النصر المتوقع فى الخرطوم فإنها استطاعت أن تركب فوق هزيمة المنتخب لتوجه غضب الجماهير المصرية باتجاه الخارج حتى لا يدفع المتسبب الحقيقى فواتير الهزيمة، ولكى تضمن تسريباً آمناً للشحنة الانفعالية الموجودة فى قلب الجماهير الغاضبة، ولو أن التسريب لم يكن آمناً تماماً بعد أن تسبب فى وضع حى الزمالك تحت حصار الأمن لحماية سفارة الجزائر فقامت الجماهير بتحطيم المحال الموجودة حول السفارة وهى مملوكة لمصريين! وفى إطار تصدير الغضب للخارج كان للسودان نصيب تسبب فى استدعاء السفير المصرى فى الخرطوم للتعبير عن دهشة الخرطوم من وقاحة البعض وبجاحة البعض الآخر الذى امتلك الجرأة للنيل من أهلنا فى السودان الذين أحاطونا بحب وود مدهش.. ولكنها الهزيمة اللعينة التى أطاحت بالعقول وضعت مكانها كرة القدم!
عندما نزلنا فى مطار الخرطوم كان الأشقاء السودانيون فى استقبالنا مقبلين على العلم المصرى يطلبونه بإصرار شديد مرحبين بنا مؤكدين على فوزنا المحتوم على فريق الجزائر، ولم تمض سوى لحظات إلا وانتهت إجراءات الدخول وأمام المطار وجدنا أحد خريجى جامعة الإسكندرية يوزع علينا بيانا مطبوعا عن كيفية التحرك فى الخرطوم وكيفية الانتقالات وأماكن التنزه والطعام الرخيص، البيان كان منسوباً لرابطة خريجى جامعة الإسكندرية، بخلاف ذلك كان الجمهور السودانى يوزع أوراقا مطبوعة وملونة عليها صور لاعبينا وهتافات لهم ودعاء بالفوز وتأكيد على أحقيتهم بالوصول إلى جنوب إفريقيا، وأمام المطار كانت الأوتوبيسات فى انتظارنا لتقلنا إلى مبنى السفارة المصرية وكان ذلك فى الثامنة والنصف من صباح الأربعاء، فى الأوتوبيسات كان مساعد السائق يوزع علينا المياه المعدنية والحلوى والعصائر، وعندما وصلنا للسفارة فوجئنا بأن السفارة قد أعدت صوانين فى الحديقة وبهما المقاعد والطاولات بل و"الشلت" فى محاولة لاستيعاب أعد كبيرة من الصحفيين والفنانين وقيادات الحزب الوطنى، وظللنا فى السفارة لأكثر من ثمانى ساعات نراقب أمواج الجماهير المصرية والجزائرية التى تعبر من أمام السفارة فى طريقها لملعب المباراة فى أم درمان، وهنا لابد من الإشارة لقصة كان بطلها الزميل جمال عبدالرحيم عضو مجلس نقابة الصحفيين وبعض الزملاء الذين رافقوه إلى كافيتريا فى الخرطوم حيث رفض السائق الذى أقلهم من أمام السفارة أن يتقاضى منهم أجر المشوار وكانت مفاجأتهم كبيرة حينما هموا بدفع الحساب للكافيتريا عندها علموا أن الشقيق السودانى الذى أقلهم دفع الحساب قبل أن يرحل! هذه صورة معبرة عن كل ما جرى من السودانيين معنا خلال 24 ساعة قضيناها هناك، وعندما تحركنا من السفارة قاصدين ملعب المباراة كانت تحفنا دعوات السودانيين وتمنياتهم لنا بالفوز، وكم كان مدهشاً وأعلام مصر يرفعها الأشقاء ملوحين لنا بعلامات النصر وطوال الطريق لملعب المباراة لم تتغير وأنا ألوح لهم بعلم السودان الذى كان بحوزتى حتى إننى شاهدت طفلا سودانيا وقد تفتق ذهنه عن لافتة أعدها بنفسه تضمنت علمى مصر والجزائر فى لوحة واحدة وبينهما علم فلسطين متصلين، وهى إشارة لا تخطئها عين عن حس هذا الصغير القومى الذى فاق الكبار، الأمر بالطبع لم يخل من أعلام جزائرية بأيدى سودانيين ولكنها لا تمثل نسبة بالمقارنة بأعلام مصر، أمام حديث "التكاتك" الذى برع فيه البعض واتهامهم للسودانيين بتأجيرها للجزائريين ـ وكأن فى هذا الأمر جريمة ـ فالحقيقة أن جزءا كبيرا من الجماهير الجزائرية كان موجودا بشكل فردى وهو ما جعلهم يستقلون "التكاتك" والتاكسيات والمركبات الصغيرة ويرفعون أعلام بلادهم فبدا الأمر وكأنهم المسيطرون عددياً لأن معظم الجماهير المصرية كانت فى الأوتوبيسات الضخمة بأعلامهم!
وأمام الاستاد كان الزحام على أشده والتدافع للدخول هائل، ويجدر القول هنا أنه حتى هذه اللحظة يوجد عزل كامل بين الجماهير الجزائرية والمصرية وكلٌ منهما دخل من طريق مغاير للآخر تماماً، وتمكنا بصعوبة من الدخول لملعب المباراة فلم نجد فى مدرجات الدرجة الأولى المخصصة لنا موطئ قدم ولا أقول مقعداً، كان الزحام رهيباً لدرجة تدفعنى للتأكيد أن الاستاد كان به ضعف سعته، وعندما دخلت صدمنى منظر جماهير مصر وهى تتفرج بدهشة على الجمهور الجزائرى المتحمس، فأوجست من هذه الجماهير خيفة أن تفشل فى تحفيز الفريق المصرى وقد كان، فلم يحضر من القاهرة أى من جمهور الكرة المتحمس وجاء كل من يرغب فى ركوب الموجة من سياسيين فاشلين وفنانين وممثلين درجة ثانية وأبناء قيادات الحزب الوطنى وبالتأكيد معظمهم يدخل استاد كرة القدم لأول مرة فى حياته ولذلك سيطر جمهور الجزائر على الملعب، لدرجة أن لاعبى المنتخب المصرى كانوا يتسولون التشجيع من جمهورهم ولكن هيهات لأن الحاضرين لا يجيدون فنون التشجيع والتحميس، وانتهت المباراة فى الملعب بنفس الطريقة التى حسم بها الجمهور الجزائرى المباراة فى المدرجات.
بعد المباراة خرجنا منكسرين ومحبطين بفعل الهزيمة ومرهقين لعدم النوم ليومين وفى منطقة مظلمة أخذنا نبحث عن الأوتوبيسات التى ستقلنا للمطار واستغرق الأمر أكثر من ساعة لتوزع الأوتوبيسات على أماكن متعددة وفى هذه الأثناء حدثت إصابة زميلنا الإعلامى أمام أعيننا عندما سقط فى حفرة وشج رأسه، ونتيجة للخطة الأمنية الناجحة التى اعتمدت على العزل التام بين الجمهورين قمنا بالتجول فى المنطقة بحثاً عن الأوتوبيسات فى أمان تام، ولو كان الأمر مختلطاً وتقابل الجمهوران فى منطقة كتلك وفى ظل أحاديث السيوف والسنج والأسلحة البيضاء لحدثت مجزرة، وبعد أن ركبنا السيارات فى اتجاه المطار عرجت سيارة من سيارات المصريين إلى داخل الخرطوم وكانت تقل عدداً من الفنانين وتقابلت مع الجمهور الجزائرى وحدث بعض الاحتكاك البسيط بين جماهير كرة القدم العادية، ولكنه كان ذا وقع شديد ومخيف على ممثلين لم يعتادوا ولوج ملاعب الكرة، وحتى وصولى للمطار لم أشاهد جزائريين أو أتعرض لأى أحداث عنف مما قيل عنه فى التليفزيون والصحافة المصرية دون توثيق أو تحقق، وعندما وصلت المطار شاهدنا أوتوبيسا واحدا وقد تكسر زجاجه بفعل قذف الطوب.
وبوصولنا المطار أصبحنا آمنين تماماً ورغم ذلك لم يتوقف صراخ البعض مهاتفين القاهرة "الحقونا.." ظناً منهم أن ذلك سيعجل بالسفر، وبالفعل فقد كان المطارد الرئيسى لنا فى المطار هو الإرهاق وقلة النوم وزاد من وطأته الهزيمة وإحباطاتها، وفى المطار فوجئنا بتحويلنا إلى ممر إقلاع طائرة الرئيس السودانى كتكريم لنا، وحدث الهرج والمرج ووجدنا أنفسنا داخل المطار وبالقرب من ممر إقلاع الطائرات، وكان الأمن السودانى مهذباً لأبعد الحدود وصبوراً جداً معنا، ونحن تملؤنا الرغبة فى الفكاك من هذا المكان بأسرع وسيلة وفى أقل وقت ممكن، وظلت عملية التدافع قائمة على أوتوبيسات المطار التى تقل الركاب إلى ممر إقلاع الطائرات وعددنا يتناقص وعند الواحدة بعد منتصف الليل كان أكثر من 70% من المصريين قد أقلتهم طائراتهم التى كانت فى انتظارهم منذ الصباح والباقى يركب تباعاً، وقد تمكنت من ركوب الطائرة عند الواحدة من صباح الخميس ولمشاكل فى الطائرة ليس للسودانيين دخل بها لم تتمكن الطائرة من الطيران إلا فى الثامنة والنصف من صباح الخميس بعد أن دخلنا فى شد وجذب ونقاشات حامية مع السودانيين حتى يتم حل المشكلة المعطلة للطيران، وعندما طرنا من السودان أيقنت كم كان السودان كريماً مع إخوانه المصريين وسمح لهم بالطيران بدون خاتم المغادرة اللازم لمغادرة أى راكب حتى لا يعطلهم ويسهل عملية نقلهم بسرعة أعتقد أنها كانت هائلة برغم كل شيء.
بقيت نقطة مهمة لابد من الإشارة لها تتعلق بأن السودان بالفعل أعطى الأولوية فى الطيران للمصريين وعندما ارتفعت بنا الطائرة عن الأرض وجدت الجماهير الجزائرية منزوية فى ركن من المطار لم تغادر بعد فى الوقت الذى انتهت تقريباً عملية سفر المصريين.
أما عن حديث الجسر الجوى الذى أُمر به من القاهرة فهو يدخل فى باب المزايدات، فلم يكن هناك جسر جوى ولا يحزنون، والطائرات التى أقلتنا فى رحلة الذهاب انتظرت وعادت بنا بعد المباراة.
وكان ملفتاً أن البعثة الطبية المصرية الموجودة فى المطار ظلت تدور بين المسافرين وتعرض خدماتها علينا بحثاً عن مصابين فلم يجبها أحد، لقد كانت تتصرف بإلحاح من القاهرة التى كانت تتلقى البيانات الكاذبة على الهواء!
وكم كان بيان وزارة الصحة فاضحاً لأكاذيب المجزرة مؤكداً أن عدد المصابين 21 مصاباً ليس بهم أى إصابة طعنية بينما الصحف تتحدث عن قتلى وجرحى بالمئات. وبالفعل هناك تساؤلات لم تجد إجابات شافية فى ظل الجدل والدجل الذى ملأ الشاشات، فعلى الرغم من كل ما قيل عن أسلحة بيضاء وسكاكين لماذا لم تخطئ سكين واحدة وتدخل فى بطن مشجع؟ أنا هنا لا أبرئ الجمهور الجزائرى المعروف بعصبيته وتهوره فى مباريات الكرة داخل بلاده وخارجها، ولا أنفى أو أؤكد خططهم للمباراة ولكنى أقول إن هناك تهويلا جبارا لأمور بسيطة تحدث فى عالم كرة القدم وما كان يجب أن تأخذ أكبر من حجمها.
ويبقى أن أشير لأصوات تحدثت عن مؤامرة من أطراف داخل الجزائر أو من بعض أطراف عربية أو فرنسية تحدثت عن رغبة فى إخراج مصر من سوق الاستثمار فى الجزائر والقفز عليها، فإذا كان ذلك صحيحاً.. فلماذا تلقفت أطراف داخل مصر خيط المؤامرة وساعدت بقوة على نسجها والمساهمة بالدور الأكبر فى إنجاح هذه المؤامرة؟
ورغم وصولى منهكاً من قلة النوم على مدار يومين فإن النوم قد جافانى بعد وصولى لأيام بعد ما رأيت من مانشيتات الصحف وأكاذيب الفضائيات الفجة.