في تقديري برزت مدرستان تؤطّران للتعامل مع خيانة وهجر الحبيب. المدرسة الأولى هي التي يمكن أن نسميها "المدرسة العفْوية"، أو "مدرسة إقالة العثرة"، وهي المدرسة التي تقيل عثرة من أخطأ في حق من يحب، وتتسم ملامحها بسمات العفو والصفح والتماس العذر وعدم الرغبة في الانتقام. بل في اعتقادي أن هذه المدرسة ذهبت إلى أبعد من ذلك، وتجاوزت مرحلة الغفران والعفو، ووصلت إلى منزلة التلذذ بالتعذيب المعنوي الذي يمارسه الآخر عليك، أو ما يمكن أن يسمى بالماسوشية المعنوية.. وهي التي ذكرنا تفاصيلها في المقال السابق.
المدرسة الثانية، أو المذهب الثاني هو المذهب الذي يقع على طرفي نقيض مع المذهب الأول، والذي يمكن أن نطلق عليه اسم "المذهب الثأري"، أو "مذهب القِصاص" وهو المذهب الذي يتصف بالانتقام وأخذ الثأر والقصاص والمعاملة بالمثل عند التعرض للخيانة والهجران. وزعيم هذا المذهب بلا منازع هو الإمام الشافعي رحمه الله.
كما تدرج مجنون ليلى في عفوه وصفحه لمحبوبته ليلى، حتى وصل درجة ومرحلة الماسوشية كما ذكرنا، تدرج أيضا الإمام الشافعي في أسلوبه الثأري. في المرحلة الأولى حثّ الشافعي وحضّ على الصبر والتجمّل عند الهجران والقطيعة.. يقول الإمام:
صن النفس واحملها على ما يزينها .. تعش سالما والقول فيك جميل
ولا تولّينّ الناس إلا تجمّلاً .. نبا بك دهر أو جفاك خليل
وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غد .. عسى نكبات الدهر عنك تزول
ولا خير في ودّ امرئ متلون .. إذا الريح مالت ، مال حيث تميل
وما أكثر الإخوان حين تعدهم ..ولكنهم في النائبات قليل
في المرحلة الثانية من مذهبه القِصاصي، ارتقى الامام قليلاً في أسلوبه، ودعا إلى المعاملة بالمثل عند تدهور العلاقة في الحب.. هجر بهجر.. وقطيعة بقطيعة..وتصريم بتصريم.. يقول الشافعي:
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلّفا .. فدعه ولا تكثر عليه التأسّفا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة .. وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا
فما كل من تهواه يهواك قلبه .. ولا كل من صافيته لك قد صفا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة .. فلا خير في ود يجيء تكلّفا
ولا خير في خل يخون خليله .. ويلقاه من بعد المودة بالجفا
وينكر عيشا قد تقادم عهده .. ويظهر سرا كان بالامس قد خفا
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها .. صديق صدوق صادق الوعد منصفا
وحكى الربيع أن الشافعي رحمه الله آخى رجلا ببغداد ثم إن أخاه ولي السيبين، فتغير له عما كان عليه فكتب إليه الشافعي بهذه الأبيات:
اذهب فودّك من فؤادي طالق ... أبدا وليس طلاق ذات البين
فإن ارعويت فإنها تطليقة ... ويدوم ودّك لي على ثنتين
وإن امتنعت شفعتها بمثالها ... فتكون تطليقين في حيضين
وإذا الثلاث أتتك مني بتة ... لم تغن عنك ولاية السيبين
في المرحلة الثالثة ارتقى الإمام في أسلوبه الثأري وصعد إلى درجة أشد سخونة، ودعا، بالإضافة إلى المعاملة بالمثل، دعا إلى إهانة من هجرك وجفاك.. يقول الشافعي:
زِنْ من وزنتَ بما وزنْكَ .. وما وزنْكَ به فزِنْه
من جا إليك فرُحْ إليه.. ومن جفاك فصد عنه
من ظن أنك دونه.. فأترك هواه إذن وهِنْه
وارجع إلى رب العباد.. فكل ما يأتيك منه
الفنان الشعبي شعبان عبد الرحيم، الشهير ب"شعبولا" يبدو أنه يتبنى "المذهب الثأري" وينتمي إلى "مدرسة القصاص".. فقد كان حاضراً ومدافعاً بقوة عن هذا المذهب، وعبّر عن أيديولوجيته تلك في أغنيته الواحدة، عفواً، أقصد في واحدة من أغنياته، بكل جرأة وصراحة، وصرح بأنه إذا تعرض للخيانة، فإنه سيرد الصاع بالصاع، وسيجرّع من سقاه من كأسها بنفس الكأس.. يقول "شعبولا":
صحيح أنا قلبي طيب .. صحيح مليان حنين
لكن اللي يسيبني.. أسيبوا لو يبقى مين
أسيبوا لو يبقى مين
أسيبوا لو يبقى مين
إييييييييييييييييه
بس خلاص.
الكاتب الصحفي / انور عبد المتعال