في حديثه مع قناة العربية أطلق عمر الشريف العنان لسر احتفظ به لما يقرب من أربعة عقود. قال إن المخابرات المصرية في عهد رئيسها الأشهر صلاح نصر الذي ارتبط اسمه بتجاوزات، وانحرافات مخيفة في الستينيات، قد كلّفته بعملية تدخل ضمن نطاق العمليات القذرة، تبدأ بإقامة علاقة مع فتاة، تبين بعد ذلك أنها فنانة شهيرة، تمهيدا للوصول الى والدها وتصفيته، لأنه كان من خصوم الدولة الناصرية.
لم يكن الشريف يعرف بطبيعة المهمة، لكنه سارع بالذهاب إلى السفارة المصرية في لندن، بمجرد علمه أن ضابط المخابرات القاطن في السفارة يرغب في رؤيته. وهناك تم تكليفه بالأمر؛ فأبدى قبولا مبدئيًّا، لأنه لم يكن يمتلك الرفض. فسمعة الاستخبارات المصرية حينها كانت مقرونة بالتصفية والترويع. وهو ما أكدته أحداث متلاحقة تكشفت عقب هزيمة يونيو/ حزيران 67، فيما عرف بـ"قضية انحرافات المخابرات" التي حوكم بموجبها نصر وأتباعه، وأُودعوا وراء القضبان، كما فقد جزء من فريقه وظائفهم إلى الأبد، ونُفي البعض الآخر اختياريا.
كان جزءا من التمويه، أن يسب عبد الناصر في العلن، ويصل السباب إلى أُذن أبي الفتاة أكثر من مرة، ليطمئن إلى أن الفنان المصري على خلاف مع النظام في بلاده، ولا قلق منه.
كانت العملية مليئة بالتفاصيل المعقدة، ولم يتصور عمر أن العملية ستنتهي بالقتل. كما أنه كان متزوجًا في تلك الفترة من النجمة الشهيرة فاتن حمامة، وإقامة علاقة مع امرأة أخرى في هذا التوقيت أمر يهدد حياته الزوجية بالخطر. كانت العملية مليئة بالتفاصيل المعقدة والصعبة، اعتذر عمر في النهاية عنها، وتقبل رجل الاستخبارات اعتذاره. ثم سارع الشريف بإبلاغ الفتاة لتأخذ حذرها، وتحذر أباها.
القصة كانت مثيرة بالطبع، لتوافر الخلطة السحرية. الشهرة ممثلة في الشريف والتشويق والإثارة المرتبطين بأعمال المخابرات عموما، لكنها حصلت على درجات أعلى من الاهتمام، لأنها تفوقت. دور عمر الشريف تعدى مرحلة جمع المعلومات أو كتابة التقارير أو حتى التكليف بمهام سرية سياسية، مثلما صرح به من قبل عن دور له في محادثات السلام بين الإسرائيليين والمصريين عقب حرب أكتوبر 1973، تعدت القصة ذلك كله، فلأول مرة يعترف فنان مصري بمهمة قذرة تصل إلى حد القتل.
لكن لم تكد تمر أياما قليلة، إلا وظهرت تفاصيل أخرى أكثر إثارة، وصدمة. فالفتاة التي كلّفت الاستخبارات المصرية الشريف بإقامة علاقة معها (لم يحدد الشريف نوع العلاقة)، كشف الناقد الفني طارق الشناوي أنها الفنانة اللبنانية، نضال الأشقر، واستند الشناوي في سبقه الصحافي إلى مصادره الخاصة.
وبقليل من التريث، سنجد أن إسناد الشناوي القصة لنضال الأشقر له في الواقع ما يبرره. فهي ابنة عائلة سياسية حتى النخاع، ووالدها هو أسد الأشقر الرئيس السابق للحزب القومي السوري، تجرّع آلام السياسة ومعاركها، طورد لفترات متقطعة وطويلة. فقد دخل الحزب الذي أسسه أنطون سعادة عام 1936، وسافر مع سعادة إلى البرازيل وسجن معه هناك، وعاد إلى لبنان مطالع الحرب العالمية والثانية، وطارده الفرنسيون.
وانتُخب رئيسًا للحزب عام 1957، ثم شارك في انقلاب الحزب القومي 1961، وحُكم عليه بالمؤبد. مات الرجل في الثمانينيات بعد رحلة فكرية وسياسية ثرية ومعقدة. وكان من بين صداماته صدام مع النظام المصري، في فترة ما، أثناء تقاطع نفوذ كيانات عديدة متصارعة على الملعب اللبناني، وقصة تصفيته التي تحدث عنها الشريف ملمّحًا، هي قصة منطقية، كونها تخص رجلاً بهذه الحيوية والتمرد، والنشاط السياسي الدائم.
ما قاله الشريف وما أكمل عليه الشناوي، ففضح المسكوت عنه، سيفتح أبوابًا كثيرة للجدل. وستظهر خلال الأيام القادمة أسئلة كثيرة ومتعددة. من بينها ما يسأل عن طبيعة العلاقة بين نضال والشريف! وهل تورط فنانون آخرون في عمليات شبيهة؟ وإذا كان الأمر صحيحا، وظهر متورطون فمن هم الضحايا، من المحتمل أن تنكر الأشقر قصة الشريف. لكن ليس هناك ما يدعو الشريف الى الكذب، وليس هناك أيضًا بالتوازي ما تخجل منه الأشقر التي عرفها الجمهور العربي كعملاقة مسرحية مثقفة، تؤدي أدوارًا صعبة لكبار المبدعين، ومن بينهم سعد الله ونوس، لكنّ أحدًا لا يعرف أنها كانت ستتيتم على يديّ عمر الشريف.