نزع فرع الشجرة ـ إيمان القدوسي
( إن الشئ الوحيد الذي منحه لي والدي ، بخلاف الحياة ، والبنية القوية ، والصلة الوثيقة بعائلة ثمبو الملكية ، هو دوليهلاهلا ، اسمي عند الميلاد ، والمعني الحرفي لاسمي هو ( نزع فرع الشجرة ) ولكن معناه الدارج هو ( المشاغب ) ورغم أنني لا أومن بأن الأسماء تصنع قدر الإنسان لكن في السنوات التي تلت صار الأصدقاء والأقرباء يعزون الزوابع التي سببتها وواجهتها إلي اسمي ، ولم أكتسب اسمي الانجليزي المألوف ( نيلسون مانديللا ) حتي يوم التحقت بالمدرسة )
هكذا بدأ المناضل الإفريقي الشهير مانديلا سيرته الذاتية ( مسيرة طويلة نحو الحرية ) ، يكتب المرء سيرته الذاتية لدوافع عديدة أحدها الاعتراف التطهري ، وسبب آخر في حالة المشاهير وهو أن يسارع هو بكتابة تاريخه قبل أن يكتبه غيره بعد وفاته ويتلاعب به كيفما شاء ، أما عشاق قراءة السير الذاتية ـ من أمثالي ـ فإن دافعهم الرئيسي هو محاولة الاستفادة من تجارب الغير ، إن الحياة لا تعطي حكمتها إلا مصحوبة بالألم ولذلك ليس ضروريا أن يكتوي كل فرد بالنار ليعلم أنها محرقة .
عند الاطلاع علي سيرة طفل أفريقي ينتمي لقبيلة ( الإكسهوسا ) ويحيا هناك بعيدا في جنوب القارة السمراء وبالقرب من (رأس الرجاء الصالح ) حيث ما زلنا في الربع الأول من القرن العشرين والمكان مازال بكرا ، فإننا نندهش فهناك الكثير من أوجه الشبه الإنسانية بيننا وبينه ، يبدو أن الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان .
(كان لوالدي أربع زوجات ثالثتهن هي أمي (نوز كيني فاني ) وكانت الذرة والفاصوليا والفول والقرع تكون الجزء الرئيسي من طعامنا لأن الناس لم يكن بمتناولهم الحصول علي أطعمة أخري ، أما العائلات الأكثر ثراء فكانت تضيف إلي ذلك الشاي والقهوة والسكر ، أما المياه المستعملة في الزراعة والطهو والغسيل فكانت النسوة ينقلنها من الجداول والينابيع ، كانت أمي تشرف علي ثلاثة أكواخ تعج دائما بالرضع والأطفال من الأقارب ولا أتذكر أية مناسبة كنت فيها وحيدا كطفل ، ففي الحضارة الإفريقية يعتبر أبناء وبنات الخالات والأعمام إخوة و أخوات وتعتبر أخت أمي أما لي وابن خالي أو عمي أخا لي وطفل أخي طفلي )
تتشابه تلك الحياة الفطرية البسيطة في حميميتها وتقشفها كثيرا مع حياة الفلاح المصري في نفس الزمن ومازالت مستمرة حتي الآن في قرانا البعيدة .
عن طفولته يقول ( في صغري كنت أقضي معظم وقت فراغي في المروج ألعب و أتعارك مع صبية القرية فقد كان الفتي الذي يقضي وقته ملتصقا بأمه ينظر إليه علي أنه مخنث ، وعندما عملت بالرعي لم أكن قد تجاوزت الخامسة حيث كنت أسهر علي الأغنام والعجول وقد تعلمت و أنا أعمل في الحقل الإيقاع بالطيور بواسطة المقلاع وجمع عسل النحل والجذور التي تؤكل ، وأن أسبح في القنوات الصافية وأن أصطاد السمك ، كما تعلمت المبارزة بالعصي وتلك مهارة أساسية لكل فتي ريفي إفريقي .
وكأطفال الإكسهوسا كنت أحصل علي المعرفة عن طريق الملاحظة والمحاكاة وليس بتوجيه الأسئلة وكان الكبار يلقوننا المعلومات التي يرونها ضرورية . )
كانت هذه نشأته وظل طيلة حياته معجونا في آلام وأحزان بلده ، يعاني مثلهم من مآسي التفرقة العنصرية التي جعلته وهو طالب في الجامعة يلقي به في الحجز مقبوضا عليه ويقدم لمحاكمة عاجلة لمجرد أنه تجرأ وركب الترام الخاص بالبيض ليلحق محاضراته ، وعمل مثلهم في المناجم وارتدي خمس سنوات نفس البدلة التي ازدانت بالرقع والتي حصل عليها عن طريق الصدقة وليس الشراء ، ضحي بحياته وحريته وعمره مناضلا من أجل حرية بلاده وحقوق بني وطنه رغم أنه عرض عليه كثيرا بعد ذلك أن يصير من النخبة السوداء التي تتمتع بكل الامتيازات ، كان مناضلا في سبيل حياة حرة أو الموت دونها وليس مناضلا (vip ) بالشوكة والسكين وعبر الانترنت وأثناء تناول الشاي والجاتوه .
عندما أتيحت الفرصة لذلك الصبي للالتحاق بالمدارس ـ فيما يشبه المعجزة ـ حقق تفوقا ونبوغا ملحوظا علي أقرانه المرفهين ،ويبرر هو ذلك بقوله إن الجري في المروج علمني أنه من الممكن تعويض الاستعداد الفطري بالاجتهاد والتنظيم وقد طبقت هذا في كل شئ في حياتي ، لقد حقق التفوق بالاجتهاد والتنظيم والجدية وبذل المجهود والتحمل وهي الصفات التي غرستها فيه أمه وبيئته الأولي وهي الصفات التي نعاني نحن الأمرين في محاولتنا لغرسها في أطفالنا المدللين .
شخصيا ـ وهذا اعتراف تطهيري ـ عانيت مع أبنائي حين كانوا صغارا وكانت تلك المسألة تحديدا نقطة الخلاف الدائم مع زوجي ، فقد كان بحكم نشأته الريفية الصلبة يميل للشدة مع الأبناء في حين كانت أمومتي تجعلني رحيمة بهم ، ولكني أعترف الآن أن كثيرا من آرائه كان صحيحا ، وحين أقارن ذلك مع ما تفعله أصغر أخواتي مع أطفالها أجد البون شاسعا ، فقد زادت مستويات الرفاهية والتدليل والرغبة في تجنيب الأبناء أية مشقة لدرجة لا تصدق .
لقد تغير شكل الحياة فأصبح الأطفال لا يتعايشون مع الطبيعة إلا بشكل ترفيهي ( المصايف والرحلات ) وانتهت الحياة الأسرية المتداخلة الثرية للأسر الكبيرة ، ولم يبق إلا الأبوين وخاصة الأم لتنشئة الأبناء علي الصلابة وتعدد المهارات والتعود علي النجاح في كل تحدي يواجههم ، ويقول علماء النفس (إننا مدينون للظروف الصعبة )
كانت لي صديقة يضرب بها المثل في تدليل بناتها الثلاث وقد اكتسبت البنات صفات محددة هي البدانة والإسراف والمستوي الدراسي الضعيف ، ثم أصيب والدهن رجل الأعمال بضربة قاصمة في السوق ، وبعد سنوات ومع إصرار الأم علي إنقاذ حياتها وإعادة تشكيل بناتها وفقا للظروف الجديدة تحولت للنقيض تماما ، رشاقة وحرص علي وضع كل قرش في موضعه وتفوق دراسي لافت أهلهن لكليات القمة .
للإنسان وجوه عديدة وقدرات لا يستغل ربعها أثناء حياته ويهمل الباقي ووظيفة المربي تحفيز الطفل لاستغلال أكبر مساحة من قدراته ، ربما يوحي اسم مانديللا الأصلي بنفس ما توحي به مسيرته الطويلة نحو الحرية ، أنه لابد من نزع فرع الشجرة وهو أخضر لشتله وإعادة زراعته ليتجذر في الأرض ويستطيل جذعه وتنبثق فروعه لتطول عنان السماء ولن يمكننا ذلك إلا بشئ من الجدية والحسم يحول دون غرق الأبناء في بحور الكسل ويدفعهم دفعا في طريق الاستقلال والنجاح .
( إن الشئ الوحيد الذي منحه لي والدي ، بخلاف الحياة ، والبنية القوية ، والصلة الوثيقة بعائلة ثمبو الملكية ، هو دوليهلاهلا ، اسمي عند الميلاد ، والمعني الحرفي لاسمي هو ( نزع فرع الشجرة ) ولكن معناه الدارج هو ( المشاغب ) ورغم أنني لا أومن بأن الأسماء تصنع قدر الإنسان لكن في السنوات التي تلت صار الأصدقاء والأقرباء يعزون الزوابع التي سببتها وواجهتها إلي اسمي ، ولم أكتسب اسمي الانجليزي المألوف ( نيلسون مانديللا ) حتي يوم التحقت بالمدرسة )
هكذا بدأ المناضل الإفريقي الشهير مانديلا سيرته الذاتية ( مسيرة طويلة نحو الحرية ) ، يكتب المرء سيرته الذاتية لدوافع عديدة أحدها الاعتراف التطهري ، وسبب آخر في حالة المشاهير وهو أن يسارع هو بكتابة تاريخه قبل أن يكتبه غيره بعد وفاته ويتلاعب به كيفما شاء ، أما عشاق قراءة السير الذاتية ـ من أمثالي ـ فإن دافعهم الرئيسي هو محاولة الاستفادة من تجارب الغير ، إن الحياة لا تعطي حكمتها إلا مصحوبة بالألم ولذلك ليس ضروريا أن يكتوي كل فرد بالنار ليعلم أنها محرقة .
عند الاطلاع علي سيرة طفل أفريقي ينتمي لقبيلة ( الإكسهوسا ) ويحيا هناك بعيدا في جنوب القارة السمراء وبالقرب من (رأس الرجاء الصالح ) حيث ما زلنا في الربع الأول من القرن العشرين والمكان مازال بكرا ، فإننا نندهش فهناك الكثير من أوجه الشبه الإنسانية بيننا وبينه ، يبدو أن الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان .
(كان لوالدي أربع زوجات ثالثتهن هي أمي (نوز كيني فاني ) وكانت الذرة والفاصوليا والفول والقرع تكون الجزء الرئيسي من طعامنا لأن الناس لم يكن بمتناولهم الحصول علي أطعمة أخري ، أما العائلات الأكثر ثراء فكانت تضيف إلي ذلك الشاي والقهوة والسكر ، أما المياه المستعملة في الزراعة والطهو والغسيل فكانت النسوة ينقلنها من الجداول والينابيع ، كانت أمي تشرف علي ثلاثة أكواخ تعج دائما بالرضع والأطفال من الأقارب ولا أتذكر أية مناسبة كنت فيها وحيدا كطفل ، ففي الحضارة الإفريقية يعتبر أبناء وبنات الخالات والأعمام إخوة و أخوات وتعتبر أخت أمي أما لي وابن خالي أو عمي أخا لي وطفل أخي طفلي )
تتشابه تلك الحياة الفطرية البسيطة في حميميتها وتقشفها كثيرا مع حياة الفلاح المصري في نفس الزمن ومازالت مستمرة حتي الآن في قرانا البعيدة .
عن طفولته يقول ( في صغري كنت أقضي معظم وقت فراغي في المروج ألعب و أتعارك مع صبية القرية فقد كان الفتي الذي يقضي وقته ملتصقا بأمه ينظر إليه علي أنه مخنث ، وعندما عملت بالرعي لم أكن قد تجاوزت الخامسة حيث كنت أسهر علي الأغنام والعجول وقد تعلمت و أنا أعمل في الحقل الإيقاع بالطيور بواسطة المقلاع وجمع عسل النحل والجذور التي تؤكل ، وأن أسبح في القنوات الصافية وأن أصطاد السمك ، كما تعلمت المبارزة بالعصي وتلك مهارة أساسية لكل فتي ريفي إفريقي .
وكأطفال الإكسهوسا كنت أحصل علي المعرفة عن طريق الملاحظة والمحاكاة وليس بتوجيه الأسئلة وكان الكبار يلقوننا المعلومات التي يرونها ضرورية . )
كانت هذه نشأته وظل طيلة حياته معجونا في آلام وأحزان بلده ، يعاني مثلهم من مآسي التفرقة العنصرية التي جعلته وهو طالب في الجامعة يلقي به في الحجز مقبوضا عليه ويقدم لمحاكمة عاجلة لمجرد أنه تجرأ وركب الترام الخاص بالبيض ليلحق محاضراته ، وعمل مثلهم في المناجم وارتدي خمس سنوات نفس البدلة التي ازدانت بالرقع والتي حصل عليها عن طريق الصدقة وليس الشراء ، ضحي بحياته وحريته وعمره مناضلا من أجل حرية بلاده وحقوق بني وطنه رغم أنه عرض عليه كثيرا بعد ذلك أن يصير من النخبة السوداء التي تتمتع بكل الامتيازات ، كان مناضلا في سبيل حياة حرة أو الموت دونها وليس مناضلا (vip ) بالشوكة والسكين وعبر الانترنت وأثناء تناول الشاي والجاتوه .
عندما أتيحت الفرصة لذلك الصبي للالتحاق بالمدارس ـ فيما يشبه المعجزة ـ حقق تفوقا ونبوغا ملحوظا علي أقرانه المرفهين ،ويبرر هو ذلك بقوله إن الجري في المروج علمني أنه من الممكن تعويض الاستعداد الفطري بالاجتهاد والتنظيم وقد طبقت هذا في كل شئ في حياتي ، لقد حقق التفوق بالاجتهاد والتنظيم والجدية وبذل المجهود والتحمل وهي الصفات التي غرستها فيه أمه وبيئته الأولي وهي الصفات التي نعاني نحن الأمرين في محاولتنا لغرسها في أطفالنا المدللين .
شخصيا ـ وهذا اعتراف تطهيري ـ عانيت مع أبنائي حين كانوا صغارا وكانت تلك المسألة تحديدا نقطة الخلاف الدائم مع زوجي ، فقد كان بحكم نشأته الريفية الصلبة يميل للشدة مع الأبناء في حين كانت أمومتي تجعلني رحيمة بهم ، ولكني أعترف الآن أن كثيرا من آرائه كان صحيحا ، وحين أقارن ذلك مع ما تفعله أصغر أخواتي مع أطفالها أجد البون شاسعا ، فقد زادت مستويات الرفاهية والتدليل والرغبة في تجنيب الأبناء أية مشقة لدرجة لا تصدق .
لقد تغير شكل الحياة فأصبح الأطفال لا يتعايشون مع الطبيعة إلا بشكل ترفيهي ( المصايف والرحلات ) وانتهت الحياة الأسرية المتداخلة الثرية للأسر الكبيرة ، ولم يبق إلا الأبوين وخاصة الأم لتنشئة الأبناء علي الصلابة وتعدد المهارات والتعود علي النجاح في كل تحدي يواجههم ، ويقول علماء النفس (إننا مدينون للظروف الصعبة )
كانت لي صديقة يضرب بها المثل في تدليل بناتها الثلاث وقد اكتسبت البنات صفات محددة هي البدانة والإسراف والمستوي الدراسي الضعيف ، ثم أصيب والدهن رجل الأعمال بضربة قاصمة في السوق ، وبعد سنوات ومع إصرار الأم علي إنقاذ حياتها وإعادة تشكيل بناتها وفقا للظروف الجديدة تحولت للنقيض تماما ، رشاقة وحرص علي وضع كل قرش في موضعه وتفوق دراسي لافت أهلهن لكليات القمة .
للإنسان وجوه عديدة وقدرات لا يستغل ربعها أثناء حياته ويهمل الباقي ووظيفة المربي تحفيز الطفل لاستغلال أكبر مساحة من قدراته ، ربما يوحي اسم مانديللا الأصلي بنفس ما توحي به مسيرته الطويلة نحو الحرية ، أنه لابد من نزع فرع الشجرة وهو أخضر لشتله وإعادة زراعته ليتجذر في الأرض ويستطيل جذعه وتنبثق فروعه لتطول عنان السماء ولن يمكننا ذلك إلا بشئ من الجدية والحسم يحول دون غرق الأبناء في بحور الكسل ويدفعهم دفعا في طريق الاستقلال والنجاح .