البشعة هي عملية كي اللسان بآلة معدنية ساخنة جدا للتحقق بواسطتها من المجرم او البريْء حيث يكثر استخدامها لدى بدو مصر. والتحقيق للزميل فتحي الشيخ يتابع ويغوص في هذه العملية الجنائية ومن يديرها وكيف يظهر المجرم او البريء لدى المبشع.
فتحي الشيخ من القاهرة: مجموعة من الاشخاص تجلس على الارض وتحيط بالنار المشتعلة في فروع الاشجار الجافة وسط الجلسة. هناك شخص خرج من الدائرة وجلس بجوار النار المشتعلة التي يقبع في وسطها ابريق قهوة ذو طراز عربي.
كان امام النار شخص يجلس في ذلك الوقت يغطي رأسه بشال ابيض يلفه حول نصف راسه ورقبته. مد هذا الشخص يده ليمسك بمقبض خشبي يمتد طرفه الاخر لينتهي بقطعة حديد تقبع في وسط النار تحت ابريق القهوة.
بعض دقائق واحمرت هذه القطعة الحديدية ليخرجها صاحب الشال الابيض و ينفضها بيديه ويقربها من الجالس امامه ويطلب منه ان يلحسها ثلاث مرات. وبالفعل يقوم بلحسها ثلاث مرات ثم يناوله صاحب الشال الابيض كوب ماء و يطلب منه ان يتمضض منه ثم يخرج لسانه بعد ذلك و بالفعل عندما يخرج لسانه الجالس امامه يشير الى اثنين بيده ان يتقدموا لينظروا الى لسانه ثم ينظروا اليه ليقول لهم انه بريء. ليقوم بعض الاشخاص بتهنئة الشخص الذي لعق النار.
هذا المشهد ليس من قرن ماض ولا من قرية لم تكتشف بعد. بل تم في قرية تبعد عن العاصمة المصرية القاهرة ب86 كليو مترا في القرن الحادي و العشرين. وهو احدى الوسائل المتبعة للفصل في القضايا في تلك القرية القابعة على حدود صحراء بلبيس في محافظة الشرقية في ما يعرف بالبشعة بكسر الباء.
وهي احدى الطرق التي يستخدمها البدو في القضايا التي ليس هناك ادلة اثبات و لا شهود فيها و عند انكار المتهم كذلك و اصبح فئات اخرى من خارج المجتمع البدوي في مصر تلجأ لها رغم ان هناك بعض القبائل البدوية ابطلت العمل بها.
وتعتمد البشعة على الاختبار بالنار فيتم عن طريق إحماء المّبشع لإناء نحاسي كـ "طاسة البن"، و أحياناً ملعقة الطعام على جمرات الفحم، و بعد أن تصل إلى درجة الإحماء يريها المبشع لشاهدين ثم يمسحها بيديه ثلاثاً، ثم يتناول المتهم الطاسة أو الملعقة المحماة، و يلعقها بلسانه ثلاثاً، ثم يغسل لسانه بالماء و يريه للشاهدين فإذا كان هناك أثر للنار على لسانه، حكم المبشع بالدعوى لخصمه، و إلا حكم له.
وعن سبب ذلك يقول المبشع الشيخ سويلم العايدي إن المتهم من شدة خوفه وارتباكه يجف لعابه، فإذا ما لامست الأداة الساخنة لسانه التصقت به وأحدثت به أثراً بالغاً يظهر للعيان، أما البريء المطمئن لبراءته، فإن لعابه يحول دون التصاق طاسة القهوة الحمراء من شدة السخونة بلسانه.
يحكي الشيخ سويلم عن اصعب القضايا التي مرت عليه قائلا اتى الي صاحب مزرعة للماشية و قال انه حدثت سرقة عنده في المزرعة و ان عنده عشرة عمال في المزرعة لا يستطيع ان يستثني منهم احدا وطلب مني الذهاب معه الى مزرعته، و لكني طلبت منه ان يحضر هو و العمال اليوم . و بالفعل اتى هو والعمال العشر و كانت هذه أول مرة يكون فيها عدد كبير لانه في الغالب يكون المتهم شخصا واحدا او شخصين. و بعد ان تم تبشيع سبعة اشخاص وجدت الشخص الثامن يبكي ويعترف بانه هو الذي قام بالسرقة.
و هذا هو ما يحدث بالنسبة إلى أغلب الجناة الحقيقيين حيث يعترفون قبل تبشيعهم في الغالب و ذلك لخوفهم من الاذى الذي من الممكن ان يلحق بهم نتيجة تبشيعهم.
وعن الاجرة التي يتقاضها مقابل قضائها قال انه لا يتفق على مبلغ معين مقابل البشعة وان هذه المهنة يتوارثها اب عن الجد وهي منتشرة بصفة خاصة بين ابناء قبيلته العيايدة المنتشرة في سيناء وفلسطين والاردن.
و عن هذا النوع من القضاء يقول الدكتور سعيد محمد استاذ علم الاجتماع في جامعة عين شمس ان هذا النوع من القضاء وجد القبول في المجتمع البدوي لانه يضمن سرعة الفصل خاصة في القضايا التي لاشهود بها، وهذا وارد جدا في البيئة الصحراوية التي من الممكن ان يترك البدوي بيته ويذهب لقضاء حوائجه من دون اي حراسة لان هذه طبيعة بيوت البدو من وجودها منفردة ومتباعدة.
ولكن مع هذا لا اعتقد باستمرار هذا النوع من القضاء حتى لفترة طويلة لدخول الثقافة الدينية التي تحرم هذا، وتكتفي باليمين الى جانب التمدن الذي يصيب كل شيء والتي اصبحت المشاكل والجرائم التي تحدث في ظله اكثر تعقيدا و بالفعل هناك الكثير من القبائل تركت هذا النوع من القضاء.
و حتى الحالات الفردية التي تتوجه له من خارج البدو هي الاخرى تقل عن ذي قبل.
و لكن رغم تأكيدات الدكتور على ان مصير هذا النوع من القضاء الى الزوال الا ان الشيخ سويلم يؤكد ان قضاءه بخير ويضمن العدالة فيه انه طوال اكثر من عشرين عاما مبشعا لم يخطئ في اي قضية عرضت عليه.
يقول هذا في فخر وكانه يتحدى عجلة المدنية وثورة العلم التي طالت العالم كله لتقف عند البِشعة محلك سر.