سائقة تاكسي.. حضارة أم تقهقر؟ ـ سحر المصري
لم يمضِ أسبوعان على محادثتي مع أختٍ لي في الله عن ظاهرة جديدة في لبنان حتى قدَّر الله جل وعلا لي ورأيتها بأمّ عيني.. فقد أخبرتني عن تفشي ظاهرة "تاكسي" نسائي يسمّى تاكسي البنات وحين تحققت منه وجدت أنه يعمل فيه نساء يقمن يتوصيل الزبون في سيارة زهرية اللون.. وقيل أنه عمل لجذب "السياح الخليجيين".. فالمرأة ترتدي سروالاً أسوداً وقميصاً أبيضاً مع ربطة عنق زهرية اللون والماكياج والأناقة والوردة الزهرية في الشعر من عدّة الشغل!
من التقيتها لم تكن من تلك الزمرة.. بل كانت امرأة عادية طاعنة في السن أوقفت سيارتها لتقلّني في بيروت.. تفاجأت حقيقة ولكني لم أتردد للحظة في الصعود إلى سيارتها علّي أتواصل معها لأفهم الدافع الذي جعلها تختار هذه "المصلحة"!
فبادرتها بالقول: أخبرتني صديقتي أن هناك نساء يعملن كسائق تاكسي ولكني لم ألتقِ بأيّ منهنّ قبل الآن.. فسألتني: متى أخبرتك صديقتك بذلك؟ فقلت لها منذ فترة بسيطة.. فقالت لي: لقد تأخرت كثيراً.. أنا أعمل في هذه المهنة منذ اثنتي عشرة سنة! فسألتها: ألا تتعرّضين لمشاكسات أو مضايقات من الرجال؟ فردّت: لِم عليّ أن أفكّر بطريقة سلبية؟ الحياة جميلة وأنا متزوجة وعندي أبناء ولِم عليّ التفكير أنني سأتعرّض لمضايقات؟ قلت لها: الدنيا فيها الجيد والسيء وليست دائماً نضِرة وقد نتعرّض فيها لمواقف لا تُرضينا مع أناس آخرين لا يخشون الله تعالى! فقالت: لا داعي للتفكير بطريقة سلبية وكلنا إخوة! وسألتها: هل تتأخرين في العمل؟ فقالت: منذ يومين عدتُ الساعة الثانية ليلاً إلى البيت!
شعرت لوهلةٍ أنها ظنّتني أهاجمها سيّما وأن هناك اختلافات جذرية في الرؤى والمفاهيم والقِيم الدينيّة فسكتّ وأنا أفكر بأسئلة كثيرة: هل يليق لامرأة أن تقوم بهذا العمل؟! ما موقف الأبناء حين يكبرون؟ هل رفض المجتمع هو بسبب قسوته على المرأة أم احتراماً لها؟ هل يمكن أن تُغلق الأبواب كلها ولا يتبقى للمرأة الا السرفيس؟ هل يمكن أن "أستوعب" أن تكون ابنتي يوماً سائقة تاكسي؟! ماذا عن المخاطر التي يمكن أن تتعرّض لها؟ والتحرّشات والسرقة ربما؟ ألا يُتوقَّع أن تنفرد برجل يُسمعها ما لا تريد؟ ألا تُفقِدها هذه المهنة السِمة الأساسية للمرأة وهي الحياء وهو لا يأتي إلا بخير؟ وإن حملت المرأة فكيف ستقوم بهذا العمل وهي تشعر بحاجة إلى التقيؤ وتسكين الآلام وحين يزداد حجم بطنها؟!!
ظلّ هذا الأمر يتردّد في كياني وكان أن فتحت باباً للنقاش فيه مع ثلّة طيبة من الإخوة والأخوات.. فتفاوتت الردود والمواقف وانقسمت إلى فريقين.. كما دائماً.. وكان لكلّ فريق وجهة نظر مُعتَبَرة..
ابتدأت مسلمة الحديث وقالت: "أعتقد أنه لا يمكن أخذ موقفاً قطعياً تجاه هذه المهنة.. أؤيّد شخصياً وجود تاكسي مخصص للنساء بحيث تقوم بالسواقة امرأة وتقلّ من الزبائن فقط النساء.. وعلى المرأة أن ترى إن كان يناسبها هذا الوضع خاصة من جهة الوقت حتى لا تكون على حساب مسؤولياتها الأُخرى كزوجة وأُم".. وأردفت مسلمة: "بعض النساء يحتجن إلى عمل لإعالة عوائلهنّ في حين أنهنّ لا يملكن شهادات جامعية تخوّلهنّ من إيجاد وظائف أُخرى فربما هذه المهنة تكون أسهل لها"..
وتقول ندى: "أقلّتني مرة امرأة محجّبة إلى المدرسة وتفاجأت حين رأيتها فهو أمر غريب ولكني أُعجِبتُ بالفكرة.. ما الخطأ في هذه المهنة إن كانت تؤمّن خدمات للناس وشرعاً لا حرج فيها؟!.. شخصياً أتقبل الفكرة وأفضّل أن تقلّني امرأة على أن يقلّني رجل"..
أما فاطمة فلم يبتعد تفكيرها عن مسلمة وندى وتقول: "رأيت امرأة تقود السيارة في بيروت من سنتين ولا أجد أن جنس السائق يؤثّر كثيراً طالما أنه يُتقِن عمله.. ثم إن عمل المرأة كسائقة أفضل من عملها في تنظيف البيوت طالما أنها لا تتقن وظيفة أُخرى تُعيلها.. وقد رأيتُ سائقة باص أيضاً فإن حفظت كرامتها وشخصيتها في هذه المهنة فما المانع؟"
ونوّهت آلاء إلى أن عملها هذا أفضل من انحرافها في عمل محرّم..
ووجدت نِعم أنه عمل عظيم.. عليها فقط أن توازن الأمور وتأخذ الحيطة والحذر ولكن لا شيء يمنع من أن تسوق المرأة سيارة تاكسي.. وكذلك ملاك التي أكّدت أنه مع الوقت سيعتاد المجتمع على ذلك..
أما أمل فلم تكن ضد الفكرة أيضاً ولكنها ركّزت على أن تحافظ المرأة على سمتِها وتراعي الله جل وعلا وسواقة التاكسي شأنها شأن أي وظيفة تعمل فيها المرأة وتختلط مع الآخرين ثم تؤكد أمل أنه في النهاية المقياس هو رأي الشرع والحلال والحرام وليس آراء الناس!
ونسرين تعتقد أن رفض الرجال لهذا الأمر هو بسبب أنوثة ولطافة النساء.. والعمل الحلال لا يكون عيباً خاصة إن حافظت المرأة على بيتها ونفسها.. وهذا يجب أن ينطبق أصلاً على أي نوع من الأعمال.. ونظرة المجتمع الرافضة ليست فقط في لبنان وإنما في كل المجتمعات لأن السواقة هي من المهن التي يحتكرها الرجال..
ورندة وجدت إيجابيات لسائقة التاكسي.. فهذه المهنة برأيها تنمّي مهارتها في السواقة وعلاقاتها الاجتماعية وتقوّي شخصيتها وتعرّفها على طرقات جديدة وتعلّمها كيفية التصرف بشكل أفضل خاصة في المواقف المفاجئة.. أما السلبيات فلم تكن أقل شأناً ففي نظر رندة أن المرأة تعود إلى البيت منهكة وغير قادرة على التواصل الفعّال مع أبنائها فستتأثر عائلتها سلباً بلا أدنى شك.. ثم أن هذه المهنة هي وجه آخر لتحرير المرأة ما قد يؤدي إلى الفساد إن تُرِك الأمر على عواهنه! ولا تحبّذ رندة أن تمتهن المرأة للسواقة لأن ذلك قد يؤثّر على أنوثتها خاصة من جهة احتكاكها مع الرجالأما إن اضطُرّت المرأة فلا بد أن تكون هناك شروط صارمة..
ويجد أحمد الفكرة غريبة جداً ويقول: "لا أتحمّل فكرة عمل إحدى قريباتي كسائقة لسيارة أُجرة مع احترامي لهذا العمل.. وأعتقد ان هذا العمل لا يناسب طبيعة المرأة.. وإن كانت تتحمّل نتاج ما زرعت فلو تعلمت لما وصلت إلى هذا المنحنى.. وسبب عدم انتشار هذه الظاهرة هو رفض المجتمع لها لأن المرأة لا زالت تتمتع ببعض مميزات تجعل الآخرين لا يستسيغون أن تخرج للعمل بهكذا مهن.."
أما بيان وإن كانت تجد هذه المهنة أشرف من غيرها للمرأة إلا أنها ترفض أن تصعد في سيارة تاكسي تقودها امرأة لأنها تخاف وربما تعتقد أن المرأة غير كفؤ كالرجل في قيادة السيارة وأخذ القرار المناسب في الحالات الصعبة! بينما تفضِّل هناء أن لا تمتهن المرأة هذا العمل لأنه غير آمن!
والأخ عبيدة تطرأ إلى وجهة أُخرى فقال: "المشكلة تكمن في مفهومنا للمرأة ودورها الذي تنوّع كثيراً مع مرور الأجيال والذي دائماً كان محط أنظار الأديان والحضارات والفلسفة وهو كصراع دائم منذ وجود الجنسين.. وأحب أن أنوِّه إلى أن مفهومنا الآن لدور المرأة ليس بالمفهوم الإسلامي الصحيح فإذا كان كذلك فنحن نلغي دور جميع الصحابيات اللواتي اتخذن مراكز قيادية وتعليمية وإدارية وتجارية فهل تفقد المرأة مثلاً أنوثتها إذا عملت تاجرة أو قائدة لجيش أو سائقة تاكسي أو مديرة أو أي عمل يستدعي اتصالاً اجتماعياً يحمل صفة القوة؟! والأهم من ذلك طريقة حكمنا على الأمر كيف يجب أن نجتهد فيها فلا يجب علينا أن نجعل عواطفنا تحكم ولا رأينا وفهمنا للشرع من منظرونا .."
وكان لمجد تصوّر آخر حيث قال: "في الواقع أنا أرفض ذلك فالمرأة خُلِقَت لطيفة رقيقة ولا يجب أن تتعرّض في عملها لمواقف شديدة.. وفرضاً أن أحدهم اصطدم بها فهل ستنزل من السيارة لتشاجره؟ ومعلوم أنّ المرأة عاطفيّة بالدرجة الأولى فكيف ستتصرّف في المواقف التي تحتاج لتحكّم في الأعصاب ورد فِعل سريع؟ أم أنها ستتخلّى عن خصائصها الخَلقية والنفسية لتصبح رجلاً في ثوب امرأة؟!
ويؤكّد مهنّد أن المرأة التي تعمل سائقة تكون مضطرة في أغلب الأحوال حيث تعمل بعمل زوجها حين تفقده أو يصبح عاجزاً عن السواقة لأسباب صحية ربما..
أما الأخ أمين فيروي قصة حصلت في العيد الأخير ويقول: "كا يوم عيد.. وسائق التاكسي ما زال في فراشه يعاني وطأة المرض والجيب فارغة وكذلك قارورة الدواء.. ولم يعد أمام ابنته الشابة أي خيار آخر فحزمت أمرها قررت.. وهكذا شهدت شوارع القبة في طرابلس وربما للمرة الأولى "سائقة للتاكسي".. استوقفها شاب وما إن استقلّ السيارة حتى راح يمارس هواية التحرش مستغلاً وجوده منفردا فما كان من سائقة التاكسي وقد وجدت قربها "مسدس العيد" وقد تركه أخوها الصغير ويبدو للوهلة الاولى حقيقياً إلا أن أوقفت السيارة وهددت الشاب بالمسدس المزيّف وأنزلته ولم تتركه الفتاة إلا وهو راكع على ركبه والناس تضحك على حاله."
ويستطرد الأخ أمين بقوله إن درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.. ولا يمكننا إنكار وجود بعض المصالح وبعض الضرورات إلا أن لكل مجتمع أوضاعه وظروفه والفتوى في هذه الحال تقدَّر زماناً ومكاناً ولا يمكن اعتماد الأسلوب السويسري "في رفع المآذن" فالمسألة ليست استطلاعاً للرأي العام إنما هي قضية اجتماعية وانسانية تحتاج إلى التبصر وفي هذه الحال يُسأل أهل الذكر..
أما الأخ خالد فكان الأكثر موافقة لتفكيري حيث قال: " الإسلام عظَّم المرأة وجعلها تتربّع على كرسي الكرامة والعظمة.. وليس العيب بمفهوم العمل ولكن في نوعه فلا أعتقد أن المرأة خُلِقَت لتكون سائقة تاكسي أو ميكانيكية مثلاً.. فهناك التعليم والتربية والطب والكتابة وأي مهنة تتناسب مع طبيعة المرأة الفيزيولوجية والنفسية مع التأكيد على قوتها بالعطاء العاطفي والروحي والفكري.."
هذه هي جملة آراء بسطتها أمامكم لتعكس رؤى الشباب المسلم لهذه المهنة.. ولمست مدى تأثّر معظمهم بانفتاح المجتمع اللبناني الذي يعيشون فيه.. ما ألقى ظلاله على المفاهيم والرؤى وأحياناً القِيَم!
وأُنهي بحديث مع أمين الفتوى في طرابلس حيث قصدته لأخذ رأيه في هذه المسألة من الناحية الشرعيّة.. فأخبر أنّ هذا النوع من الأعمال للمرأة "لا يجوز" لأن الأصل عدم جواز الاختلاط.. ويُستثنى من الأصل أمور أو مواقع بشروطها وضوابطها كطلب العلم أو التعليم والعبادات مثل الحج وغيرها.. وكثيرٌ من النساء كنّ يعملن في إدارة التجارة التي لا يكون فيها مخالطة يومية كأمّنا خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها.. وطالما أنه لا يوجد استثناء لعمل معيّن فالحكم يكون على الأصل.. فهناك أصل يعطي الحكم الأصلي وهناك أمور عارضة قد تُخرِج من الأصل وتعطي حكم آخر بضوابط وأحكام محددة ومنصوص عليها.. فالأصل المنع وعدم خلطة الرجال بالنساء .. وأصلاً عمل المرأة عليه كلام كثير فالأصل أن المرأة تُصان وتترفّع عن الأعمال ولها كيانها ودورها الذي لا يحلّ أحد محلّها ولا يسد مكانها فيه.. والآثار السلبية المترتبة على خروجها معروفة وكثيرة.. أما طبيعة العمل الذي خرجت إليه فهذا موضوع آخر.. فهناك فرق بين عملها كسائقة تاكسي وبين عملها كإدارية أو معلّمة أو غيرها مما يتناسب مع طبيعتها.. وفي السيارة هناك مع الاختلاط خلوة ولو أنها ليست خلوة بالمعنى الحرفي للكلمة.. ولكنها من أنواع الخلوة حيث تكون هناك أقوال ونظرات وربما أكثر من ذلك مما لا يظهر للناس.. فالأورع أن تفتش المرأة عن بدائل أفضل لها أو أن يقتصر عملها في حال الضرورة على نقل النساء فقط.
حقيقة بعد سرد كل هذه الآراء مع رأي الشرع أصبحت المسألة فيها ما فيها.. ولن أُعيد التدقيق في الكثير من الأمور التي ورد ذكرها على لسان الإخوة والأخوات.. ولكن ما يخيف أن هناك من يعتبر هذه المهنة هو ثورة على العادات والتقاليد وفتحاً مبيناً للمرأة! وفي المقابل شريحة كبيرة جداً سترفض هذه المهنة للمرأة.. فهل سيتقبّلونها حين تنتشر مع الوقت؟.. أم أنها ستندثر بعد فترة لعدم تقبلها؟ وما سيكون موقف الذي رحّب بفكرة أن تكون المرأة سائقة تاكسي حين يعلم أن موقف الشرع كان رافضاً لهذا المهنة؟.. هل ستتغير الرؤية أو سيتم اللجوء إلى شيخ أحكامه أيسر وربما في أفضل الأحوال ستُخفف إلى القول بأن هذا العمل هو "غير مستحب" حفاظاً على المرأة والمجتمع..
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه.. تُرى هل عمل المرأة كسائقة تاكسي هو ظاهرة تطوّر وحضارة.. أم مهانة وتقهقر؟!