حب الدنيا : مشكلة خطيرة جدا , قد يكون جمع الأموال وادخار الذهب والفضة والمناصب العليا والمغريات التي تعرض علينا قد تورث حب الدنيا , وقد يصاب المسلم بغشاوة وفقدانه لذكر الله عز وجل ونسيانه الآخرة , قال رسول الله r يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ حُبُّ الْمَالِ وَطُولُ الْعُمُرِ . رواه بخاري
و محب الدنيا لا ينفك عن ثلاثة : هم لازم وتعب دائم وحسرة لا تنقضي فهو يتنقل بين همّ وتعب وحسرة ، وكل ذلك على حساب دعوة الله وخدمة المولى جلّ في علاه ، ومن اشد ما يقع فيه الناس في شراك هذه الدنيا هو حب المنصب والجاه والمدح .... فهؤلاء يتساقطون لا محالة كما ت ت ساقط أوراق الشجر الصفراء أمام نسمات الخريف الخفيفة .
هذه بعض الأحاديث عن رسول الله r في وصفه للدنيا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ . رواه مسلم
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرَ اللَّهِ . رواه ابن ماجه
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمِثْلِ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يَرْجِعُ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ . مسند أحمد
ولو تمعن المسلم بهذه الأحاديث قد يرى أن الدنيا وهم وإنها زائلة لا بقاء لها مهما طالت , فمهما بلغ المسلم بنعيم في دنياه من مال أو منصب أو عز فسيأتي يوم ويرحل عنها ف لا ينفعه في أخرته إلا عمله الصالح .
بقول الله عز وجل في كتابه الحكيم { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
أخي المسلم الدنيا جميلة وجميل كل ما فيها فالله الخالق أبدع في تكوينها وكل شيء بتقدير من الله عز وجل والدنيا هي وسيلة لعبورك إلى الآخرة .
ولكن أصبحت الدنيا بمغرياتها ومعطياتها تؤثر على عبادتنا لله عز وجل , وسنضرب لكم مثال عن هذا :
لو نفترض أن هناك شركة كبيرة جدا تعمل في مجالات عديدة ولها علاقات ببعض الدول الأخرى وهذا بسب طبيعة عمل الشركة ولديها مندوب يعمل بهذه الشركة وأرادت منه الذهاب إلى إحدى الدول بسبب طبيعة عمله كمندوب , وقدمت له جميع أنواع الراحة في طريقه إلى تلك الدولة من أفخم الطائرات ومن أكبر الفنادق وألذ الأطعمة والشراب وله ما شاء هذه الوسائل التي قدمت له قد تنسيه المهمة التي هو راحل لأجلها , فيجب عليه العلم أنه سيرجع إلى بلاده بعد أداء المهمة مهم طال ومكث .
وهذه هي حقيقة الدنيا. أخي المسلم مهما تمتعت بها لا بد لك من العلم بأنك سترحل عنها , فيجب عليك حق المعرفة بهذا الأم ر .
لكن وفي الحقيقة كما قلنا أصبحت مغريات الدنيا كبيرة وقد تبعدنا عن عبادة الله عز وجل ونظن أننا سنخلد في هذه الدنيا .
فقد ينعم الله عز وجل على عبده بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى , وتراه متجاهل تلك النعم بسبب زهده في الدنيا , والزهد في الدنيا كما صرح رسول الله r في حديثه لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي يَدَيْكَ أَوْثَقَ مِمَّا فِي يَدَيْ اللَّهِ وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا أَرْغَبَ فِيهَا لَوْ أَنَّهَا أُبْقِيَتْ لَكَ . رواه الترمزي
وقد أتى النبي r رجل أَشْعَثُ سَيِّئُ الْهَيْئَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r أَمَا لَكَ مَالٌ قَالَ مِنْ كُلِّ الْمَالِ قَدْ آتَانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ تُرَى عَلَيْه ِ .
وقد ترى عكس ذلك رجل أنعم الله عليه لكنه نسى الله وأصبح مقبل على الدنيا وكأنه يملكها , ولا يعلم أن ميراث الأرض والسماوات كله لله عز وجل , فيجب أن يعلم المسلم أنه بنعيم من الله عز وجل ولقد قال في كتابه العزيز { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ }
من هنا يبدأ حديثنا عن حب الدنيا والزهد فيها :
تعريف الزهد في الدنيا
تعددت عبارات السلف في تعريف الزهد في الدنيا وكلها تدور على عدم الرغبة فيها وخلو القلب من التعلق بها .
قال الإمام أحمد : الزهد في الدنيا : قصر الأمل .
وقال عبد الواحد بن زيد : الزهد في الدينار والدرهم .
وسئل الجنيد عن الزهد فقال : استصغار الدنيا ، ومحو آثارها من القلب .
وقال أبو سليمان الداراني : الزهد : ترك ما يشغل عن الله .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة ، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة ، واستحسنه .
قال ابن القيم : والذي أجمع عليه العارفون : أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا ، وأخذ في منازل الآخرة !!.
فأين المسافرون بقلوبهم إلى الله ؟
أين المشمرون إلى المنازل الرفيعة والدرجات العالية ؟
أين عشاق الجنان وطلاب الآخرة ؟
حقيقة الزهد في الدنيا
الزهد في الدنيا هو ما كان عليه رسول الله r وأصحابه ، فهو ليس بتحريم الطيبات وتضييع الأموال و لا بلبس المرقع من الثياب، ولا بالجلوس في البيوت وانتظار الصدقات، فإن العمل الحلال والكسب الحلال و النفقة الحلال عبادة يتقرب بها العبد إلى الله ، بشرط أن تكون الدنيا في الأيدي، ولا تكون في القلوب ، وإذا كانت الدنيا في يد العبد لا في قلبه استوى في عينه إقبالها وإدبارها ، فلم يفرح بإقبالها، ولم يحزن على إدباره
قال ابن القيم في وصف حقيقة الزهد: وليس المراد ـ من الزهد ـ رفضها ـ أي الدنيا ـ من الملك، فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهم، ولهم من المال والملك والنساء مالهم .
وكان نبينا r من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة .
وكان علي بن أبي طالب ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير وعثمان رضي الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال .
والزهد لا يطبق على كل شيء في دنياك فكما ورد حديث المصطفى r لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ , فالحلال هنا كثير ومن أهمه أن لا تضيع من كان له حق عليك مثل زوجتك وأولادك وأن لا تكون متشددا مع الآخرين , وأن لا تعتزل مجتمعك وأن لا تكون طموحا في دنياك , وأن أنعم الله عليك لا يهمك ذلك كل هذا بسب زهدك .
وحديث الرسول r يقول الزهادة لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي يَدَيْكَ أَوْثَقَ مِمَّا فِي يَدَيْ اللَّهِ وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا أَرْغَبَ فِيهَا لَوْ أَنَّهَا أُبْقِيَتْ لَكَ . رواه الترمزي
فلا بد من الاعتدال في كل شيء دون الإفراط والتفريط وعدم نسيان الآخرة فعنه سبحانه وتعالى { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ }
وهذا هو شرح الآية الكريمة لابن كثير رحمه الله وقوله : "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا" أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب
إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة "ولا تنس نصيبك من الدنيا" أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح فإن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فآت كل ذي حق حقه "وأحسن كما أحسن الله إليك" أي أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك .
فإذا أنعم الله عليك يجب أن تحمد الله أولا ولا تجحد بنعمته , وتتمتع بما أنعم الله عليك وكما ورد في الحديث فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ تُرَى عَلَيْهِ . مسند أحمد
شريطة أن تكون الدنيا بيدك لا بقلبك وأن تفعل ما أمرك الله عز وجل به , وهو تواضعك لأخوك المسلم , فكما جاء بالحديث القدسي لله تعالى
الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ . رواه ابن ماجه
وأن لا تبخل بما آتاك الله من فضله , فقال في كتابه العزيز { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
وقال { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
أما عن حبك للدنيا فتكون أولا بعبادتك الخالصة لله عز وجل , وبعد ذلك أنظر من هم أحق الناس عليك , سترى أنهم أهلك وذوي الأرحام وزوجتك وأولادك , ففعل كما أمرت من الله عز وجل { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } فأبويك أحياء أم أموات لهم الحق , بطلب رضاهم لكي تسير في دنياك إلى أخرتك , ولهم الدعاء بالرحمة والمغفرة إن كانوا أموات .
وزوجتك أن تجعلها تشرب من كأسك لكي تسير على ما أنت عليه , وأولادك أن تكون لهم المثل الأعلى , وأن تصلح تربيتهم على الوجه الأكمل .
فأنظر إذا أحسنت التعامل مع ولدك وجعلته من الصالحين كم تكون فرحتك به أو أن رأيته في مراكز متقدمة في مجتمعه فهذا هو حقه عليك...... دون التفاخر والتباهي , فتلك رسالتك أمام الله عز وجل , وحبك للناس وعمل الخير وصلة أرحامك وتصدقك على المساكين هذه لك في دنياك وأخرتك .
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
بقية كلمة أخيرة وهي الحذر من الفتن في حبك للدنيا ومغرياتها , فكون مسيطرا على نفسك ولا تنسى ذكر الله جلّ وعلا .
وليس تجاوز الفتنة بنبذ المال ، لأنها حينما يحسن الإنسان التصرف فيهما يكونان خير معين له على الرقي في سلم الكمال الأخلاقي والإيماني ففي الحديث الشريف عن النبي r نعم العون على تقوى الله الغنى .