من أساطير الدراما ـ إيمان القدوسي
شئنا أم أبينا يشاركنا التلفزيون في تربية أبناءنا ، إنه مربية العصر الحديث التي تظل تحكي حكاياتها للأبناء منذ الصغر ، لم تعد تحكي حواديت أمنا الغولة والشاطر حسن بل تطورت كثيرا وأضافت الألوان والظلال والصور المؤثرة ، ولأن الآباء والأمهات مشغولين جدا فإنهم يتغاضون عن جلوس الأبناء متسمرين أمام الشاشة المضيئة علي اعتبار أنها تسلية متاحة ووسيلة للسيطرة علي شقاوة العيال وبالمرة تخطف الأم بضعة مشاهد تلفت نظرها أثناء مرورها في اتجاه المطبخ .
تسهم ثقافة التلفزيون في تشكيل الوعي وتتسرب أيضا إلي منطقة اللاوعي تاركة بصمات مؤثرة علي الشخصية ، ومن أساطير الدراما المألوفة ( أسطورة العائلة السعيدة )
منذ أفلام الأبيض والأسود وحتي مسلسلات رمضان تبدأ القصة بأسرة سعيدة جدا ، يلتف الأبناء والبنات الناجحين حول الأب الحاني والأم البارة ويتبادل الجميع كلمات المحبة والود في جلسة مرحة ضاحكة حول مائدة طعام عامرة بما لذ وطاب وبالطبع البيت يشبه القصور أو علي الأقل فيلا رائعة .
وذلك ليتعرف المشاهد علي أفراد الأسرة ويبدأ من النقطة التي ستنطلق منها الأحداث
يتلفت المشاهدين حولهم ويقارنوا حالهم بما يشاهدون ليجدوا البون شاسعا في كل شئ
بيتهم بسيط وأسرتهم مثقلة بالمسئولية والهموم ، وتترسخ في النفس الغضة حلم المستقبل سيكون لدي بيت وعائلة مثل هؤلاء ، ولذلك نسمع من الأبناء مهما كانت تضحيات والديهم ( أسرتنا لا تحقق طموحاتنا ) و ( بيتنا بسيط ) و ( لا أعتقد أننا أسرة سعيدة ) ، وهكذا ينتشر عدم تقدير الأبناء لجهود الآباء وترتفع مستويات تطلعاتهم وطلباتهم ويؤثر هذا علي برهم بآباءهم في المستقبل علي أساس ( ماذا فعلوا من أجلنا ؟) ثم تفشل الزيجات الحديثة بسبب ارتفاع توقعاتهم لما يحصلون عليه من الزواج .
الأسطورة الثانية ( البطل لا يهزم ) سرعان ما تبدأ أحداث الحدوتة ساخنة مليئة بالمفاجآت من العيار الثقيل ، تصل لحد الاتهام بالقتل ودس المخدرات والجاسوسية وكل المصائب التي تكفي واحدة منها لتقضي علي أسرة كاملة وليس شخصا واحدا ، ولكن البطل ينجو منها جميعا دون أن تترك أي تأثير عليه ، ويجد دائما من يقف بجانبه ويساعده وكأن العالم كله في خدمته .
الأثر السئ هنا هو الاستهانة بالمخاطر واعتقاد أنه من السهل تجاوزها ، رغم أنه حتي في حالة تجاوز أي محنة فإن الثمن يكون غاليا جدا ، يدفع من عمر وصحة وتوازن حياة الإنسان ، ولا يمكن أن يدعي أحدا غير ذلك ( افعل ماشئت فإنك مجزي به ) في الدنيا والآخرة أيضا ، والدعاء المأثور في ليلة القدر ( نسأل الله العفو والعافية )
الأسطورة الثالثة والأخيرة هي ( النهاية السعيدة ) مهما تعقدت الأحداث وتشابكت فإن النهاية سعادة وهناء الجميع ، يتزوج المحب محبوبته ويعيش معها في تبات ونبات ، ويتصالح المتخاصمون ، ويستعيد التاجر ثروته ، ولذلك نسمع من الكثيرين عبارة ( سوف أبدأ حياتي عندما تنصلح الأمور وتتحقق الآمال ) ويمر العمر في تأجيل السعادة وفي انتظار الوهم .
هناك من يعكسها ( النهاية البائسة ) فينال كل مخطئ جزاؤه العادل ويتحطم تماما وهذا أيضا وهم ، وخاصة عندما يقف الشرير ليلقي موعظة بليغة ربما لا تخطر ببال الأدباء والمفكرين ، الله رحيم بعباده ودائما تسبق رحمته غضبه ويلطف بهم ويترك لهم دائما بارقة أمل .
تهدف الدراما التأثير علي العاطفة وتسطح الحياة لتحقق أهدافها ، والتأثير واضح ومباشر واسألوا صفحة الحوادث المليئة بجرائم خطف ونهب يظن فاعلها أنه سينجو بها كما يحدث دائما في الدراما وتأملوا الزيجات المحطمة لان كل من الفتي والفتاة لم يجد ما يحلم به ، علينا توضيح ذلك للنشء ، للحياة الحقيقية وجوه كثيرة متداخلة يولد الطفل في نفس يوم وفاة أبيه وتتزوج الفتاة بعد أن تعرف الأم بإصابتها بمرض خطير ويأتي المال بعد أن زهدنا فيه ويتحمل مسئولية الأسرة ذلك الطفل الذي لم يكن مرحبا به وهكذا ، كل الأحداث تسير جنبا إلي جنب ، فلا سعادة خالصة ولا بؤس كامل ، بل هي خلطة مركبة من الحلو والمر وعليك وحدك يتوقف عبقرية استخدامها ، ومن لطف الله بعباده أن يقسم أرزاقه بما يصلح أحوالهم ويجعل في قضائه رحمة ، وليست الشجاعة في التصدي الأحمق للأخطار والجري وراء المتاعب ، فالابتلاء الحقيقي مؤلم يكوي القلب ويترك مساره في الدم والعروق نسأل الله العافية ، إنما الشجاعة في مواجهة الحياة بتفاؤل وقوة مستمدة من الإيمان بالله ثم التعاون مع سائر البشر في سبيل الخير .